أستاذى- وصديقى أيضا- د.يحيى الجمل مغرم بالحديث عن «انهيار» الأحوال فى مصر، أما صديقى د. أسامة الغزالى حرب فهو يبدأ دائما أحاديثه الحزبية وغير الحزبية بأن مصر تعيش أردأ العصور التى عاشتها فى تاريخها الطويل. وعادة ما تكون نقطة البداية فى هذا التشخيص المأساوى أو ذاك هى ضرب المثل بجامعة القاهرة التى كانت عالية الشأن والسمعة بين جامعات العالم، ويشار إليها بالبنان بين مؤسسات التعليم العالى العالمية، فى عصور سابقة؛ وإذا بها الآن تفشل فى الدخول إلى قائمة الخمسمائة جامعة الأوائل بين جامعات الدنيا حسب تصنيف واحدة من المؤسسات الدولية فى شنغهاى. ورغم أن صديقىّ لم يشيرا أبدا إلى عدد الجامعات فى العالم فى الأزمنة السابقة، وعددها الآن، لكى تكون الصورة والنسب مكتملة على الأقل، فإن ما يثيراه يظل باعثا على الأسى والحزن وربما العار أيضا أنه لا توجد جامعة مصرية واحدة ضمن هذه القائمة المشرفة. ولكن القضية فى النقاش العام دائما أنه لا يتعدى كثيرا تسجيل النقاط واستخلاص النتائج المأساوية منها وهو ما يمكن قبوله فى تقارير صحفية، ولكنه لا ينفع كثيرا عندما يأتى من قادة أحزاب وسياسيين مهمتهم الأساسية طرح السياسات على المجتمع. فما الذى جعل جامعة القاهرة، والجامعات المصرية الأخرى، تفشل فى الوصول إلى مكانة عالمية هى جزء أساسى من الاهتمام بمعايير «التنافسية» فى عصر العلم والمعرفة، وهو سؤال مطروح بإلحاح على الأصدقاء حتى ولو كانت الإجابة عليه لن تكون مريحة لأحد، ومن يعلم فمن الجائز أنها سوف تفتح أبواب جهنم، فالقصة التى لا يريد أحد الحديث عنها ذات جانبين متصلين: الأول أننا فشلنا فى اللحاق بالقائمة الصينية لأن جامعاتنا صارت من جامعات الأعداد الكبيرة حيث صار عدد طلابها يماثلون أعداد دول بأكملها، فجامعة القاهرة بها 232202 (مائتان واثنان وثلاثون ألفا ومائتان واثنان طالب فقط لا غير أو ما يزيد بكثير على عدد مواطنى دولة قطر الشقيقة)، وعين شمس بها 208053 (مائتان وثمانية آلاف وثلاثة وخمسون طالبا يزيدون أيضا عن عدد مواطنى دولة قطر التى لا تزال شقيقة)، وجامعة الإسكندرية بها 171165 (مائة وواحد وسبعون ألفا ومائة وستة وخمسون طالبا والعدد لا يزال متفوقا على دولة قطر)، أما جامعة أسيوط فبها 70794 ( سبعون ألفا وسبعمائة وأربعة وتسعون طالبا). مثل هذه الأعداد لا توجد فى جامعات العالم الواقعة ضمن قائمة الخمسمائة التى ترتب عليها الاستخلاص الدرامى أن الأوضاع فى مصر «منهارة» وبمقتضاها فإن مصر تعيش «أردأ» عصورها التاريخية، وإذا تم قياس نسبة هذه الأعداد إلى الميزانية، وحتى المساحة الكلية، وعدد الأساتذة والفصول والمعامل ومؤسسات البحث العلمى، وبالطبع شكل ونوعية البرامج الدراسية التى تتناسب مع هذه الأعداد، فإن المسألة تصير ليس عما إذا كانت الجامعات المصرية قد وصلت إلى القائمة العظمى، أو أن المعجزة الحقيقية هى أن هذه الجامعات لا تزال تقدم للمجتمع، والدول العربية الخليجية، ما تحتاجه من مهندسين ومحاسبين وأطباء ومدرسين وقضاة وعاملين فى بنوك ومؤسسات. الجانب الثانى للقضية أن جامعات الأعداد الكبيرة هى النتيجة الطبيعية لمجانية التعليم الجامعى، فعندما لا تجد الدولة من الموارد ما يكفى لدعم الرغيف فإنها تجعله صغيرا دون زيادة فى السعر، أو تجعله أكثر رداءة حتى يبقى الدعم عند حدود معقولة، وعندما تعجز عن زيادة ميزانية التعليم الجامعى فإنها تقبل المزيد من الطلبة الذين تقدمهم بغزارة منظومة التعليم العام ونظام الثانوية العامة الذى يحقق «العدالة» إلى الجامعات القائمة فيسعد أكبر عدد من الآباء بحصول أبنائهم على الشهادة الجامعية مهما كان ذلك أولى الخطوات على طريق «الانهيار» أو «العصور الرديئة». ولكن أصدقائى لا يريدون فتح كل أبواب جهنم هذه من أول نظام الثانوية العامة، ومجانية التعليم الجامعى، وحتى جامعات الأعداد الكبيرة، وربما لم تكن هناك صدفة أن كثيرا من أبناء النخبة استقروا فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة حيث عدد الطلاب 5577 (خمسة آلاف وخمسمائة وسبعة وسبعون طالبا) لدى كل منهم من البراح ما يزيد على عشرة فى جامعة القاهرة، ويحصل كل منهم فى النهاية على عشرة أمثال الأجر. والمسألة هكذا واضحة، فمن يرد وقف الانهيار، أو تحسين العصور عليه أن يفتح الملفات، وكلها؟!.