(1) «فى حياتنا العقلية» هو عنوان مقال للأستاذ الجليل الدكتور زكى نجيب محمود، كتبه فى السبعينيات ونشر ضمن كتابه المهم «هموم المثقفين»... لابد أن يتذكره كل منشغل بالشأن العام عندما يرى التناول الذى يتم به مناقشة الكثير من قضايانا إعلاميا وعلميا فى شتى المجالات من دون استثناء، بداية من الكرة ومرورا بالتعليم والثقافة ووصولا إلى قضايانا الحيوية القومية العليا. يخلص زكى نجيب محمود فى مقاله آنذاك إلى أن حياتنا العقلية «لها ظاهر يخفى وراءه ضحالة فكرية، وجهالة فاضحة...جهالة بماذا؟ قد تسألنى،فأجيبك بأنها جهالة بمعظم مقومات المثقف الصحيح، فهى حياة توشك أن تخلو من الإلمام بأهم القضايا الفكرية التى يطرحها عصرنا على أبنائه، كما توشك أن تخلو خلوا تاما من معرفة الأركان الأساسية التى يتكون منها تراثنا،ابتداء من اللغة ومفرداتها وطرائق تركيبها، وصعودا إلى الاتجاهات الفكرية الرئيسية التى شغل بها أسلافنا، فإذا كان المثقف اليوم،لا هو يشارك عصره،ولا هو يلم بتاريخه الفكرى، فماذا يكون بعد ذلك؟».. هذه الكلمات سطرها زكى نجيب محمود قبل 30 سنة، وأظن أنها لا تزال صالحة فى أيامنا هذه. (2) تذكرت هذه الكلمات بسبب طلب أكثر من باحث مقابلتى طلبا لمساعدته فى أطروحته أو بحثه الذى يقوم بإعداده (كلها تتراوح بين المواطنة والأقباط والعلاقات الإسلامية المسيحية).. وبحسب ما تعلمنا من أساتذتنا وليم سليمان قلادة وأبوسيف يوسف ألا نرد أحدا يسعى طالبا المساعدة فيما يقوم به من بحوث، وأعمل على توفير المطلوب من مراجع والرد على ما يطرحه من تساؤلات، وإبداء النصح بغير حدود.. وتصادف أن حضر لى على التوالى ثلاثة أشخاص يعدون أبحاثا مختلفة..ولاحظت عند مقابلتهم وبعد قراءة المقترحات البحثية والنقاش معهم ما يلى: *أنهم لا يعرفون بدقة لماذا اختاروا الموضوعات التى قرروا البحث فيها. *عدم الإلمام بالقضية موضوع البحث.. فعند سؤالهم عن القراءات التحضيرية التى أظنها أساسية وترتبط ارتباطا وثيقا بأبحاثهم، وتعد مراجع لا غنى عنها، وتعين فى رسم خريطة معرفية أولية لهذه الأبحاث، وجدت أنهم لا يعرفون - لا أقول لم يطلعوا على - غالبية ما طرحته من عناوين. *فى عرضهم الإطار العام لبحوثهم، لا يحتاج المرء إلى كثير من الجهد لإدراك أن الباحثين لديهم أحكام سابقة التجهيز حول القضايا مجال البحث من قبل إجراء البحوث.. وعبثا تحاول أن توضح أن هناك فرقا بين الفرضيات العلمية و الأحكام المسبقة. ■ الاعتماد على معلومات سماعية غير موثقة والبناء عليها واعتبارها من ضمن الأسانيد الأساسية للبحث. ■ إعادة «تدوير» المادة الصحفية واستخدامها فى متن البحث بغير توثيق أو بذل أى جهد للتأكد من صحة المنشور ودقته والسياق الذى قيلت فيه. ■ عند قراءة المقترح الأولى للبحوث تجده يجمع بين مناهج علمية متناقضة. (3) وتبدأ الإشكالية الكبرى عندما يحاول المرء إبداء الملاحظات، وتوجيه الباحثين، واقتراح قراءات أساسية حول موضوعات البحث، وتسمية أشخاص آخرين لمقابلتهم لأن ذلك سيوسع زاوية الرؤية، ولفت النظر أن الأحكام المسبقة والأخذ بما يتم تناقله «سماعى» قد يعطى شخصا ما لا يستحقه أو يقلل من دور البعض والمبالغة فى تأثير واقعة ما أو العكس. ولفت النظر إلى التعامل مع الأبحاث، وبخاصة التاريخية منها، فى سياقها وعدم إسقاط الحاضر عليها بكل ما يحمل من عبء سياسى. كذلك أهمية متابعة جديد العلم فى العالم المتقدم وبخاصة فى المسائل المنهجية ومدى فائدة ذلك. النتيجة غير السارة هو أن الاستجابة لما سبق أظنها سلبية وإن غلفت بابتسامة رقيقة، حيث تجد عيونهم تكاد تنطق «مالك محبكها كده.. البحث سيتم إجازته.. الموضوع أبسط مما تتخيل». المأساة فى حياتنا العقلية والعلمية اليوم، فى أنها - وبحسب زكى نجيب محمود مرة أخرى - قد «انجرفت فى تيار الفهلوة، فلم يعد المهم هو أن تدقق النظر إذا فكرت، وأن تجيد الصياغة إذا كتبت، بل لم يعد المهم هو أن تفكر وأن تكتب على الإطلاق، إذا أردت أن تحسب فى عداد المفكرين والكتاب والباحثين،بل يكفيك أن تتقن فن الفهلوة التى تضعك فى مساقط الضوء دون أن تكون قد مهدت لذلك بعمل فعلى تؤديه».