هناك شىء غير سليم وغير مريح فى تعاملنا - كمجتمع عموما - مع قانون تشجيع المنافسة ومنع الاحتكار، فمجلس الشعب ينظر هذا الأسبوع، وللمرة الثالثة هذا العام، إجراء تعديل جديد فى القانون، بموجبه يتم رفع الحد الأعلى للغرامة على المخالفين إلى مليار جنيه مصرى.. التعديل مطروح من الأعضاء فى إطار التقلبات فى أسعار الأسمنت، ولذلك فيبدو أن الرأى العام قد تلقى الفكرة بترحيب للاعتقاد أن تشديد العقوبة سوف يؤدى إلى ردع شركات الأسمنت عن ممارساتها الاحتكارية وبالتالى إلى تخفيض الأسعار، ونظرا لأن الفكرة لاتزال فى مرحلة النقاش من حيث المبدأ، فقد يكون من المناسب المشاركة فيها بإلقاء الضوء على بعض الاعتبارات التى لا تتعلق بالأسمنت وحده أو حتى بقانون تشجيع المنافسة، وإنما بمنطق التجريم والعقوبة على العموم ثم فيما يتعلق بهذا القانون تحديدا. فتشديد العقوبة بشكل عام، وكما علمنا أساتذة القانون الجنائى، ليس بالضرورة الوسيلة المثلى للحد من الجريمة لأنه متى تجاوز الحدود المعقولة فإنه لا يشجع القاضى على تطبيق العقوبات المغالى فيها، بل يجعله أكثر عزوفا عنها.. وزيادة الغرامة فى قانون الاحتكار إلى مليار جنيه فيها مبالغة شديدة أيا كانت الأرباح التى تحققها شركات الأسمنت. من جهة أخرى فهناك ما يعرف بالتناسب بين العقوبات، والمقصود به هو تناسب العقوبة ليس مع الجريمة فقط، وإنما مع المنطق العام للقانون المصرى فى التجريم وفى العقاب.. فلا يعقل أن تكون الغرامات المنصوص عليها حاليا فى قوانين أخرى عديدة كلها ذات شأن كبير فى الاقتصاد - قوانين سوق المال، والبنوك، والتأمين، وغيرها - من نوعية مائة ألف ومائتى ألف ومليون جنيه، بينما يأتى قانون آخر ويرتفع عنها جميعا مائة مرة.. عقوبة المليار لذلك تأتى خارج المألوف والمعتاد فى العقوبات المصرية كلها. هذه المبالغة فى العقوبة تقودنا إلى أن تعديل العقوبات فى القوانين لا ينبغى أن يأتى استجابة لرد فعل المجتمع لقضية مثارة فى هذا الوقت بالذات. بمعنى آخر فإن منطق التجريم يجب أن يكون أكثر هدوءاً، لأن نصوص الجريمة والعقوبة تستمر لسنوات طويلة بعدما تزول الظاهرة المؤقتة التى تستفز المجتمع، كما أنها نصوص سوف تقع تحت طائلتها كل المخالفات الأخرى التى يقوم بها أفراد وشركات آخرون قد لا تتناسب معهم العقوبة التى صدرت تحت تأثير ظروف خاصة.. فعمومية النص الجنائى تستلزم التفكير ليس فقط فى أسوأ حالات المخالفة وإنما أيضا فى الحالات العادية أو المتوسطة وهى الحالات الغالبة.. من هنا فإن العقوبة الجنائية ينبغى أن تكون للردع والحساب وليس للانتقام ولا للتنفيس عن غضب المجتمع مما قد يعتبره إثراء غير مبرر أو استغلالاً لظروف خاصة أو أرباح مغالى فيها. ومجرد احتمال تعديل قانون المنافسة للمرة الثالثة خلال عام واحد، كل مرة بتشديد العقوبة، ينبئ بأن هذه التعديلات تعبر، ليس عن منطق اقتصادى محدد ومدروس، بقدر ما تعبر عن الغضب من أسعار سلع معينة والاستفزاز مما تحققه الشركات المنتجة لها من أرباح، وكلاهما لا يمثلان الظروف المناسبة لصدور تشريع متوازن يعبر عن مصلحة المجتمع على المدى الطويل. ما أقترحه من التروى بشأن تشديد العقوبة فى قانون تشجيع المنافسة ليس الغرض منه الدفاع عن شركات الأسمنت ولا الحديد ولا الأسمدة ولا غيرها، فقد تكون محتكرة بالفعل، وقد تكون أرباحها غير متناسبة مع الظرف الاقتصادى. ولكن التعامل معها يجب أن يكون من منظور ما يحقق مصلحة المجتمع على المدى الطويل، وركن أساسى منه أن تكون النصوص العقابية فى مجال النشاط الاقتصادى متوازنة وغير مرتبطة بظرف خاص ومحققة للتوازن الدقيق بين حماية المستهلك من جهة وتشجيع النشاط الاقتصادى المشروع من جهة أخرى. وأخيراً، فإن الأمر الذى يجب التوقف عنده هو الاعتقاد الذى صار شائعا بأن قانون المنافسة كفيل بضبط الأسعار، وهذا اعتقاد خاطئ وفيه خداع للناس. قانون المنافسة واحد من أدوات عديدة فى يد الدولة لتصحيح الهيكل العام للإنتاج والملكية والتحقق من عدم نشوء ظروف احتكارية تستغلها الشركات الكبرى، وهو لذلك وسيلة مهمة فى ضبط الأداء الاقتصادى، ولكنه ليس وسيلة تخفيض الأسعار بشكل مباشر وعلى المدى القصير، وإنما توجد لذلك أدوات أخرى منها تيسير دخول منافسين جدد، ومراجعة أسعار مدخلات الإنتاج، وتحليل الهيكل الضريبى على النشاط، وفتح باب الاستيراد من الخارج متى كان ذلك مؤثرا، وتحسين آليات توزيع السلع والمنتجات فى الداخل. أما اختزال قضية ارتفاع الأسعار فى جانب واحد فقط، هو احتكار الشركات وتشديد العقوبة، فلا أظن أنه تصور سليم للموضوع.