كنت أحلم منذ الطفولة بأن أسافر كثيراً، وأطوف ببلاد العالم المختلفة، وأضع قدمى فى كل مكان. وكانت صورة السندباد البحرى، الذى قرأت قصصه وتفاصيل رحلاته فى ألف ليلة وليلة، فى خلفية تفكيرى وأنا أتمنى أن أشاهد ما شاهد وأمر بما مر به.. فى صورته الحديثة طبعاً. ولا أدرى اليوم وقد تحقق هذا الحلم بأكثر مما كنت أتمنى هل لو عادت بى الأيام إلى الطفولة من جديد، هل كنت سأكون على نفس الإصرار ونفس الرغبة؟.. لا أدرى. لكنى بعد تجربة طويلة عريضة فى السفر والسياحة فى بلاد الله أرجو من كل من يتمنى أن يسافر ويطوف ويشوف ويبحر فى المركب الورق إلى العالم الخارجى أن يتأنى فى الدعاء، خشية أن يتحقق ما يتمناه! فالسفر مثل القعود، يحمل ما يفرحك كما يحمل ما يشقيك، لكنى رغم كل شىء ما زلت على شغفى به.. أحبه وأحرص عليه كلما كان ممكناً. وقد بدأت رحلاتى التى قمت بها وحدى من أيام المدرسة الإعدادية عندما انضممت لفريق الرحالة بمركز شباب الجزيرة. وقد حكى لنا قادتنا فى المركز وقتها عن الرحالة الكبار فى التاريخ الذين تركوا سيراً وروايات عن الأقطار التى زاروها والممالك التى مروا بها فى ترحالهم، ومن أشهرهم ابن بطوطة، الرحال العربى المعروف وكذلك الإيطالى ماركو بولو.. كما حكوا لنا عن السفر فى العصر الحديث وأفاضوا فى الكلام عن وسائله وطرائقه ونظرياته.. وكأن كل شىء لا بد أن تكون له نظريات! وانصب جانب كبير من المحاضرات النظرية عن «الأوتوستوب» كطريقة فعالة وحديثة فى السفر يمكن من خلالها لعشاق الترحال أن يقطعوا مسافات كبيرة دون أن تتكلف ميزانيتهم أعباء تذكر، ورووا لنا أن الآلاف من الشباب فى الغرب يستخدمون هذه الطريقة فى التنقل والسفر كل يوم، وأن علينا أن نبدأ أولاً بالسفر الداخلى ومعرفة جميع ربوع الوطن أولاً قبل أن ننتقل للمرحلة التالية، وهى السفر خارج مصر. والأوتوستوب لمن يجهله هو أن تشير على الطريق لأى سيارة يتكرم صاحبها باصطحابك لجزء من رحلتك ثم تكمل الرحلة مع متكرم آخر.. وهكذا. وقد أعطوا كل منا دفتراً مطبوعاً عليه شعار الجمعية، وطلبوا منا عند القيام بالرحلات أن نطلب من رجال المرور على الطريق أن يسجلوا لنا فى الدفتر ما يثبت أننا قطعنا هذه المسافة ومررنا بهذه النقطة ليكون ذلك بمثابة سجل لنا، مثل الذى لدى الطيارين، والذى يسجل لهم عدد ساعات الطيران التى قطعوها. وأذكر أننا بدأنا أول رحلة من مركز الشباب وظللنا نسير على الكورنيش فى طريقنا إلى الإسكندرية حتى وصلنا إلى قليوب، ومن بعدها بدأنا نشير إلى السيارات على الطريق حتى وصل كل منا بمعرفته إلى الإسكندرية، ثم تلاقينا عند الحديقة الصغيرة المواجهة لمسجد سيدى بشر، حيث نصبنا الخيام التى صنعناها من ملاءات السرير وقضينا أسبوعاً بالقرب من شاطئ البحر بتكلفة محدودة للغاية. كانت الرحلة الأولى مفيدة على قدر ما صادفنا فيها من معوقات، لكنها لم تكن مشجعة بالقدر الكافى بالنسبة لى حتى أعيد تكرارها. ويبدو أن قادتنا بالمعسكر فى مركز شباب الجزيرة وقتها قد تصوروا أنفسهم أوروبيين وتصورونا رحالة من شمال أوروبا، ولم يدركوا أن بعض السادة أمناء الشرطة والضباط الذين مضينا إليهم طالبين توقيعهم فى الدفتر قد أشبعونا سخرية واستظرافاً، ولم يفهم أى نطع منهم أنهم إنما يجرحون مشاعر بريئة لفتية أبرياء متقدين حماسة ومحبين لوطنهم، يظنون العالم مكانا محترما ويعتقدون أن مصر جزء من هذا العالم. والحقيقة أننى لم أفهم وقتها، وما زلت لا أفهم حتى الآن، ما الذى يثير الضحك والسخرية لدرجة القهقهة وتبادل طرقعة الكفوف بشأن فتية يقومون بالترحال ويطلبون من موظف عمومى أن يساعدهم ويضع توقيعه الكريم فى الدفتر، غير أنها القسوة والجلافة والروح الميتة. وطبعاً لم يعلموا أنهم باستهزائهم بأحلامنا قد تسببوا لنا فى شروخ نفسية، وجعلونا نكفر بالدفتر الذى سلمه لنا أساتذتنا الواهمون، ففضلنا أن نقوم بتمزيقه على ألا نطلب أن تضاف إلى سيرتنا الذاتية أميال قطعناها إذا كانت تحتاج إلى توقيع هؤلاء. كذلك لم يعلم قادتنا الحالمون أن السادة قائدى السيارات الذين سيتوقفون لنا على الطريق لن يخرجوا عن سائقى النقل والتريلات السكارى المحششين المبرشمين، وأن سيارة ملاكى يقودها شخص طبيعى وفى كامل وعيه لم تتوقف لأحدنا قط! الخلاصة أننى وجدت أن الترحال الداخلى بدفتر من خلال منظمة أو ناد اجتماعى أمر مثير للرثاء يحتاج إلى مجتمع ناضج به مؤسسات متحضرة تحترم النشاط الإنسانى وتحنو عليه، وهو الأمر الذى لا يزال غائباً بعد أكثر من ثلاثين سنة على تلك الأيام (من مقدمة كتاب «مسافر فى مركب ورق»)