فى كل يوم من أيام هذا الشهر سوف تقرأ مقالة مستمدة من إسلاميات العقاد، طموحى من نشرها أكبر بكثير من توضيح معلومة أو زيادة علم أو نقل معرفة، طموحى الحقيقى أن يحدث لنا - مع نهاية الشهر الفضيل - انقلاب استراتيجى فى طريقة تفكيرنا، أن نميز بين جواهرنا الحقيقية والمزيفة. الفلسفة القرآنية «الفلسفة القرآنية»، الكتاب الذى وضعه العقاد لإثبات أن العقيدة الدينية لا تعارض الفلسفة فى جوهرها، ولا تحول بينها وبين البحث فى أغراض الفكر والضمير. من حسن الحظ أنه بدأ الكتاب بذلك الموضوع الذى شهد مداً ملحوظاً ومبالغة شديدة فى السنوات الأخيرة، وهو موضوع «الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم»، كان حاسماً فى اعتقاده أن العلوم الإنسانية تتجدد مع الزمن، ولا يندر أن تتزعزع بعد ثبوت، فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة لجيل من البشر، ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم، وقد أخطأ البعض حينما أنكروا دوران الأرض واستدارتها اعتماداً على ما فهموه من ألفاظ بعض الآيات، وأخطأ بالقدر نفسه آخرون فسروا السموات السبع بالسيارات السبع فى المنظومة الشمسية، ثم ظهر أنها عشر، وهؤلاء الذين حاولوا التوفيق بين النظرية السديمية وآيات من القرآن الكريم «أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما». فهى لا تعدو أن تكون فرضاً من الفروض، يقبل النقص والزيادة، والنقض والتفنيد، فلا حاجة بالقرآن إلى موافقة النظريات المستحدثة كلما ظهر منها فرض جديد، وخليق بأمثال هؤلاء أن يحسبوا من الصديق الجاهل، لأنهم يسيئون من حيث يقدرون الإحسان. لا حاجة بالقرآن إلى مثل هذا الادعاء، لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة فى مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يشل حركة العقل أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم. وكل هذا مكفول للمسلم فى كتابه كما لم يكفل قط فى كتب الأديان، فالإسلام يجعل التفكير السليم والنظر الصحيح إلى آيات الله وسيلة من وسائل الإيمان: «إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب»، «أولم يتفكروا فى أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق». وهو يعظ المخالفين عظة واحدة، وهى التفكير الذى يغنى عن جميع العظات: «قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا»، «كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون». ولا يرتفع المسلم بفضيلة كما يرتفع بفضيلة العلم: «يرفع الله الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات»، «قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون». ولا يسأل المسلم ربه نعمة أهم وألزم من العلم: «وقل ربى زدنى علما». فالقرآن يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى، وفضيلته الكبرى أنه يفتح للمسلمين أبواب المعرفة ويحثهم على التقدم فيها، وقبول كل مستحدث من العلوم على تقدم الزمن، لا أن يصدهم عن طلب العلم بزعم أنهم حاصلون على جميع العلوم!