فى كل يوم من أيام هذا الشهر سوف تقرأ مقالة مستمدة من إسلاميات العقاد، طموحى من نشرها أكبر بكثير من توضيح معلومة أو زيادة علم أو نقل معرفة، طموحى الحقيقى أن يحدث لنا - مع نهاية الشهر الفضيل - انقلاب استراتيجى فى طريقة تفكيرنا، أن نميز بين جواهرنا الحقيقية والمزيفة. «عبقرية عمر»، الكتاب الذى ألفه العقاد فى أحوال البأس والخطر أثناء الحرب العالمية الثانية، رغم ذلك عاش أروع أيامه فى صحبة الفاروق. كانت لديه مشكلة صغيرة، لقد تعود الناس من «الكتاب المنصفين» أن يقرنوا بين الثناء والملام، وأن ينقلبوا من الحسنات إلى السيئات، وإلا كانوا مظنة التحيز والمغالاة. ولكن ماذا يفعل العقاد مع رجل بحجم عمر بن الخطاب، يعايشه، يحادثه، يهيم به، يناجيه، أصعب شىء أن تحاسب رجلاً كان أشد أعدائه لا يحاسبونه مقدار ما يحاسب نفسه، رجل قَلّ نظيره فى الناس. بينه وبين نفسه، اعترف العقاد بأنه لو وجد خطأً لكان أحب شىء إليه أن يسترسل فيه، لكن بعد تفصيل وتمحيص، لم يستطع إلا أن يقول: «هذا الرجل العظيم أصعب من عرفْتُ نقداً ومؤاخذة، ومن فريد مزاياه أنّ فرط التمحيص وفرط الإعجاب يلتقيان». قال لنفسه: «لو كنت أفدت شيئاً من مصاحبة عمر فلا يحرجنك أن تزكى عملاً جديراً بالتزكية، وإن زعم زاعم أنه فرط الإعجاب». لذلك لم يكن كتابه «عبقرية عمر» مجرد ترجمة أو سيرة بطل، بل قبلة حب وتحية وفاء. عمر بن الخطاب، عبقرى من الذين لا يعدون فى الزمن الواحد بأكثر من آحاد، قوى الجسد، بائن الطول، تملأ هيبته القلوب، هيبة من قوة النفس قبل أن تكون من قوة الجسد، تشهد العيون أنه معدن العظمة وقوة العبقرية ومتانة التكوين. عادل لأنه قوى، ومستقيم لأنه عادل، وحازم لأنه مستقيم، بطل إذا واجه الأنداد، رحيم مع الضعفاء، يرق للأرملة، وينفخ النار ويحمل الدقيق، ويرحم يهودياً ضريراً، فيأمر له بما يكفيه من بيت المال، ويقول: «والله ما أنصفناه إن أكلنا شبابه ثم خذلناه عند الكبر»، يعطف على البهيم الذى لا يحسن الشكاية، ويضرب رجلاً لأنه يُحمّل جمله ما لا يطيق، ويقول: «لو عثرت شاة بالعراق لخشيت أن يحاسب الله عمر». قوى النفس، بالغ فى القوة النفسية، غيور على الحق، جياش العاطفة، شديد الشكيمة، فطن عليم بخبايا النفوس.. فراسة تكشف الخفايا وتستخرج المعانى، ضرب من استيحاء الغيب واستنباط الأسرار. عادل مفطور على العدل، شديد فى الله بلا هوادة، مهيب رائع المحضر، مفتاح الشخصية هو طبيعة الجندى بكل أبعادها من شجاعة وحزم وخشونة وغيرة ونجدة ونخوة وطاعة ونظام. يصلى فيسوى الصفوف، ويرى الناس متفرقين فى المسجد فيأمرهم بإمام واحد، ويحمل الدرة ليذكر المخالفين بهيبة القانون. سمت عسكرى بالفطرة، وليس بالأسوة والتعليم، يأمر بتعلم الرمى والسباحة والفروسية والمصارعة، ويقول: إياكم والسمنة، ويأمر بالجد ويمشى شديد الوطء، جهورى الصوت كما يمشى الجنود، يعيش فى دنياه عيشة المجاهد، فيؤثر الزهد وعيشة الكفاف، ويقف بين يدى الله وقفة جندى يؤدى الحساب، ذلك هو الجندى فى طبيعته المثلى، الفاروق الذى لهجت بعدله الأجيال.