(1) أطلقت تصريحات- منذ أيام- وتداولتها المواقع الإلكترونية وبعض وسائل الإعلام وبعض الفضائيات، وأتمنى ألا تكون صحيحة، خلاصتها أن الأقباط «يبتعدون عن السياسة لأنهم يفضلون البيزنس».. وأن «سقف المناصب التى يمكن أن يتولاها الأقباط هو منصب رئيس الوزراء».. وعلى الرغم من أن هذه التصريحات لا تعد جديدة فإن توقيت إطلاقها يثير تساؤلات عدة من جهة، والإحباط من جهة أخرى. من هذه التساؤلات: هل يستقيم إطلاق هذه التصريحات فى لحظة تاريخية تستعد فيها مصر لاستحقاقين سياسيين كبيرين هما: الانتخابات البرلمانية فى نوفمبر 2010، والرئاسية فى 2011.. أليس من المفترض دعم المشاركة السياسية للمصريين من المسلمين والمسيحيين وتعظيم جدوى المشاركة السياسية. سؤال آخر: ألا يدرك القائل بأن الأقباط يفضلون البيزنس على السياسة أنه يكرس فكرة الأقباط «الكتلة متماثلة العناصر»، والتى يمكن أن تترجم لدى البعض بأنهم «جماعة دينية» ولدى البعض الآخر بأنهم «جماعة سياسية».. وهو ما ينفى فكرة الأقباط المواطنين المنتشرين فى الجسم الاجتماعى رأسيا، فمنهم العامل والفلاح والمهنى والحرفى ورجال الأعمال والتجار، ولا يربط بينهم سوى الانتماء إلى مصر من جانب، والانتماء الدينى من جانب آخر، وبين هذين الانتماءين تفترق المصالح والتحيزات والرؤى. سؤال ثالث: ألا تتفق هذه التصريحات مع ما يثيره بعض تيارات الإسلام السياسى حول عدم أحقية الأقباط بالترشح لمناصب الولاية العامة من جانب، ونظرتهم للأقباط كجماعة دينية لا حاجة لأن تعمل بالسياسة وكفى عليهم البيزنس، كما لو كان هذا البيزنس هو نمط العمل السائد لعموم الأقباط، وأن من يعملون فيه لا يدفعون الضرائب للدولة وإنما يوزعون عوائدهم على باقى أفراد قبيلة الأقباط.. وأن اكتفاء المصريين بالمساحة الاقتصادية فى المجال العام وعزوفهم عن المساحة السياسية هو ظاهرة مصرية بامتياز ولها تفسيرها العلمى وهو ما يمكن أن نشير له فى مقام آخر. (2) بالإضافة إلى التساؤلات السابقة، سببت التصريحات الإحباط- فيما أتصور- لكل المهمومين بمستقبل الحركة الوطنية فى مصر.. فبدلا من تقدير الجهد الذى بذل على المستوى الفكرى فى تأصيل فكرة المواطنة على مدى سنوات من جهة، وتقدير كل من آمن بها على المستوى العملى وتكلف مشقة الممارسة السياسية والمدنية من خلال الانتخابات البرلمانية والنقابية على مدى العقود الأخيرة فى ظل مناخ مضطرب من جهة أخرى.. ها نحن نعيد الجدل مرة أخرى حول: ■ حدود مساحات الحركة المتاحة للأقباط فى المجال العام. ■ حدود المساواة بين الأقباط وغيرهم فى تولى المناصب بمستوياتها المختلفة. فبالنسبة للحركة المتاحة للأقباط (الكتلة)-حيث الرابطة الدينية هى التى تربط عناصر هذه الكتلة دون سواها- هى الحركة فى المساحة الاقتصادية من المجال العام.. ويعنى ذلك ضمنا أن يكون لغيرهم التحرك فى المساحة السياسية. أما بالنسبة للمساواة فتكون منقوصة ومقيدة ومشروطة.. وتكرس فكرة الأغلبية والأقلية على أساس دينى لا سياسى. المفارقة أن هناك اجتهادات معتبرة أقرت بعدم اقتصار الولاية العامة على المسلمين فقط. ونشير فى هذا المقام إلى ما قاله- بشكل حاسم-أستاذنا الجليل طارق البشرى مبكرا فى «المسلمين والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية» (ص 686 إلى 688)، وما بلوره الفقيه الأصيل الدكتور محمد سليم العوا فى «للدين والوطن.. فصول فى علاقة المسلمين بغير المسلمين» (2006/ ص 20- 21). (3) فى الواقع، لا أعرف بدقة مغزى وتوقيت إطلاق هذه التصريحات- هذا إذا ما ثبتت دقتها- بيد أننى أتصورها غير مفيدة بالمطلق لمستقبل هذا البلد ولكل أطراف العملية السياسية التى تسعى منذ عقود لتجاوز التوتر الدينى.. وتجديد رابطة المواطنة بين المصريين على أساس من المساواة الكاملة بغير تمييز بسبب اللون أو الجنس أو المكانة أو الثروة أو الدين أو العقيدة أو المذهب... الخ. هذه التصريحات تذكرنى بتصريحات أطلقت فى التسعينيات حول أخذ الجزية من الأقباط، وكتبت يوما مقالا عنوانه «الأقباط والإقالة من الوطن».. أما التصريحات الحالية فإنها تقترب من أن نقول «الأقباط والمشاركة نصف وقت».. حيث الحضور فى المجال العام مقيد نوعاً وسقفاً.. إن الحركة فى المجال العام- بحسب هابرماس- تعنى: ■ السجال الحر بين المتساوين.. والتأكيد على التحرك فى كل المساحات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية.. وتوفير البيئة السياسية والتشريعية والاجتماعية لتحقيق ذلك للجميع.