لا أتفهم كثيراً مواقف سياسيين وإعلاميين وباحثين ومواطنين نبلاء ينتمون لدول عربية وأجنبية عديدة حين أجدهم متابعين باهتمام وقلق تفاصيل جولات الحوار الوطنى الفلسطينى التى تجرى برعاية مصرية، ولا أشاركهم الأمل فى أن تُفضى المصالحة الفلسطينية المرتقبة إلى تغير استراتيجى يأخذ بيد قضية العرب الأولى خطوة إلى الأمام. لن يكون الحديث عن طول جولات المصالحة الفلسطينية أو إخفاقاتها المتكررة بجديد، كما لا يعد النصح بضرورة تجاوز الخلافات بين الفصائل المتناحرة من أجل تحقيق مصلحة الشعب الفلسطينى وتفويت الفرص على أعدائه سوى ترديد لجمل مكررة معتادة قيل مثلها وكُتب آلاف المرات دون جدوى. وعلى عكس ما قد يتبادر إلى أذهان الكثيرين، وبخلاف العديد من التحليلات الغارقة فى التشاؤم والتزام الحدود الدنيا وتخفيض أسقف الأمل، فثمة عوامل كثيرة تدفع إلى الاعتقاد بأن القضية الفلسطينية ستجد طريقها حتماً إلى الحل المنصف العادل، وأن المناضلين الفلسطينيين، ومن يدعمهم من الحكومات والناشطين والسياسيين والمواطنين الشرفاء فى شتى أصقاع الأرض، مازالوا قادرين على مواجهة التحديات الخطيرة الملقاة على عاتقهم، ومازال بإمكانهم مقاومة الضغوط الرهيبة التى تستهدفهم وإبقاء قضيتهم حية نابضة مهما تعرضت للعدوان، وتحقيق الأهداف المرجوة فى الاستقلال والحرية مهما بدت مستحيلة أو صعبة المنال. والشاهد أن الافتراق الفلسطينى الذى تجسّد جلياً منذ اتفاق أوسلو فى العام 1993، وما تلاه من ترتيبات إقامة السلطة الفلسطينية، وتوفير الأمن لإسرائيل مقابل الوعود بالمضى قدماً فى التفاوض للوصول إلى حل نهائى للصراع، لم ولن يحسم بأى صورة من الصور الراهنة، كما أن المصالحة المرجوة لن تكون قادرة على رأب صدعه أو جبر شروخه أو ستر عوراته. الحقيقة المُرة التى يتواطأ الجميع عليها ويتعامى كثيرون عنها، ويراوغ آخرون حولها، ويسكت المعنيون بصددها، لا تتعلق بنزاع «فتح» و«حماس» على السلطة، ولا بتدخل أطراف إقليمية، مغرضة أو نزيهة، لإدارة الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى لمصلحتها، ولا بالاستهداف الإسرائيلى العسكرى والسياسى والاستخباراتى والإعلامى الرهيب للمقاومة الفلسطينية، ولا بتآمر الدول الكبرى على القضية انحيازاً للدولة العبرية أو خوفاً من نفوذها، وإنما تتعلق تلك الحقيقة بأن الشعب الفلسطينى بات اليوم شعباً بلا قائد. سيمكنك، إذا أردت، أن تعدد أسماء العشرات، بل المئات، من الناشطين والمناضلين الفلسطينيين أصحاب التاريخ الناصع فى المقاومة والعمل الوطنى والرؤى الواضحة حيال الصراع وسبل حله، لكن واحداً منهم لا يستطيع إقناعنا باستحقاقه للزعامة أو قدرته على النهوض بأعبائها. لم يحدث على مرّ التاريخ أن نجح شعب، مهما توافرت له القدرات وتيسرت السبل، فى نيل حقوقه الوطنية أو التخلص من الاستعمار أو تحقيق الحرية وإزاحة الظلم والقهر والاستعباد دون أن تكون له قيادة وطنية بارزة تحظى بقدر من التوافق والاصطفاف خلفها معتبر، وتتمتع بشىء من الشرعية والقبول الطوعى من شعبها وفير. ورغم أن جزءاً كبيراً من أسباب النزاعات الفلسطينية- الفلسطينية الراهنة يعود إلى وفرة كمية فى الزعماء، وهى الوفرة التى مكنت كل فصيل من تصور وجوب تفعيل رؤاه والسير على منهجه، فإن قائداً واحداً لا يكاد يظهر على الساحة متمتعاً بالقبول والمصداقية فضلاً عن القدرة والشرعية اللازمة لتولى القيادة. والقيادة عملية مُغرقة فى التعقيد، وسمة شديدة الندرة، ودور فائق التكلفة، وقدرات أصعب من أن تُحسب، وبذل أوسع من أن يُحصى، وفى المقابل فهى تتيح قبولاً وأتباعاً وطاعة وسلطة ومجداً لا يُقارن. والقائد مسؤول عن تشخيص مشكلات شعبه وتحديد قضايا وطنه، واجتراح الرؤية الواسعة لمقاربتها، ووضع الاستراتيجية اللازمة لمواجهتها، وصوغ برامج العمل المناسبة وحشد القوى وتعبئة الأنصار وإلهام الجماهير وإقناع الحلفاء وتخويف الأعداء وتنفيذ السياسات وترويجها وتعديلها عند الحاجة، والمحافظة على الشعبية والتأييد فى الأحوال كلها. لم تترك إسرائيل جريمة مهما كانت مروعة أو شنعاء إلا وارتكبتها فى حق الشعب الفلسطينى، ولم تترك باباً يمكن أن تنفذ منه إلى حيث تضعف الفلسطينيين وتشل قدرتهم على الفعل وتمحو أثرهم من المنطقة والعالم إلا وولجته، ومع ذلك يبقى أكبر نصر لها، وأفدح هزيمة للفلسطينيين، أنها عملت بجهد وتدبير محكمين لتوصلهم إلى حيث باتوا شعباً بلا قائد. اليوم يعرف الجميع لماذا كان التخلص من عرفات أولوية على رأس الأولويات الإسرائيلية، ولماذا لجأ شارون إلى سياسة الاغتيالات لكل بادرة قيادة تظهر بين مناضلى المقاومة الفلسطينية، ولماذا سارعت الحكومات الإسرائيلية، وبعض الأصدقاء والحلفاء فى المنطقة والعالم، لتنصيب زعماء أقل نزاهة ورشداً، أو وطنية وجهاداً، أو تبصراً ورؤية، أو قبولاً وكاريزماتية، أو تسامحاً وعقلانية وانفتاحاً، وتركهم للتناحر والتنازع على سمعة القضية ونقائها ومستقبلها. لن تفضى جهود المصالحة الفلسطينية إلى شىء ذى بال، ولن يستقيم الحال ل «فتح» أو «حماس»، ولن يحقق الشعب الفلسطينى طموحه إلى الكرامة والسيادة والحرية دون قيادة تبدو الآن غائبة وصعبة المنال، لكنها حتماً ستظهر يوماً ما، وستحقق لشعبها، وبه ومعه، ما يصبو إليه ويستحقه.