يا سبحان الله، معقولة؟ أنا الذى ما فى جسدى إلا موضع لسندوتش كبدة كلاب أو أثر لسجق مشبوه النسب أو طعنة من سيخ لحم تغير طعمه ولونه أو رشفة من تمر هندى آسن، أرقد على فراشى كما يرقد البعير إثر أكلة بطيخ.. فلا نامت أعين الفكهانية. الساعة بالوقت تجرى، والواجب ينادينى لكى أوفى بموعدى اليومى معك يا قارئى، وبطنى التى خذلتنى خذلانا مبيناً بعد سنين من الجدعنة تنادينى «اتلهى، إنت فيك نفس»، لولا بناتى زغب الحواصل لالتهمت شريط «الفلاجيل» عن بكرة أبيه لكى أرتاح من عنائى، أكواب شاى بالنعناع تروح وتغدو مثلما أروح وأغدو إلى بيت الراحة الذى لم يعد له من اسمه نصيب. كم هى تعيسة البلاد التى يشرف الإنسان فيها على الموت لأنه قرر أن يلتقى بمن يحب.. بالبطيخ. يا حسرة على البطيخ، البطيخ الذى كنا نسفحه بالفانلات الداخلية دافسين أفواهنا بين قطرى شرائحه، قبل أن نصبح قدوة لعيالنا فيتحتم علينا أكله بالشوكة مقطعا ومرصوصا فى الصينية وفاقداً للهوية، ها نحن عشنا حتى صار البطيخ عدواً، البطيخة التى كان الفكهانى يتحايل عليك أن يشقها، وأنت من لهفتك على أكلها تقول له «خليها على الله واوزن»، راغباً فى أن تكون أنت أول الشاققين لها، ومقاوماً زغللة عينيك التى تراودها خيالات طلوع البطيخة من الفريزر ساقعة تَسُر السافحين، أصبحت الآن تنظر إليها كأنها فخ، تقلبها ذات اليمين وذات الشمال، لم تعد الآن تخبط عليها برقة المحب المكتشف، بل بترزيع الخائف الوَجِل، يَشُقُّها لك الفكهانى من محيطها إلى خليجها حتى تكاد تُخرج أحشاءها، فلا يطمئن قلبك بل تدفس عينيك بداخلها، تبحث عن شبهة تحسم قرارك بعدم أخذها لكثرة ما تسمعه مع كل طلعة صيف من نصائح وفضائح تخص البطيخ، اللون أحمر دموى، الرائحة محايدة، الحجم لا شية فيه، القشرة خضراء جنزارى، هل نأخذها وأمرنا لله؟ لا، هناك شىء مريب فى الأمر لابد من تبينه. تسأل متوجساً: ماله البذر ده كتير؟ فيرد الفكهانى بغتاتة الدنيا: لسه ما اخترعوش بطيخ من غير بذر يابيه. إنت هتهزر.. ده بذر وطلع له بطيخ. جاى تقولى الكلام ده بعد ما شقيتها. طب هات أدوق كده. طب ما أديك عليها ضمان سنة.. إيه اللى جرى لك يا أستاذ.. ما تتوكل على الله.. هو أنا هاغشك. وماتغشنيش ليه.. إنت ناسى الخوخ اللى قلت لى سكرى طلع سيناوى.. والمشمش اللى طلع الزتون أطعم منه.. والتفاح الصينى اللى طلع قلبه مضروب.. والموز اللى قلت لى بلدى طلع وطنى.. والفراولة اللى كلها حديد بدليل إن لونها أسود متعاص بشوية لون أحمر.. والكمثرى اللى كسرت ضرسى وأنا باقطمها.. والجوافة اللى الخلاط كان هيرجّع وهو بيعصرها. خلاص يا عم أنا غلطان.. عوضى على الله.. بلاش منها. إنت هتبقشش عليا.. هات.. ودينى ما أنا عاتقك لو طلعت محقونة ولا مضروبة. أخذت وقطعت وفى الصينية رصصت وفى الفريزر وضعت لزمن محسوب بالثانية لكى لا تتجلد قطع البطيخ فتتبلد، بنية سيئة قررت أن آكل فلا أنتظر عودة أهلى الذين كان الله بهم رحيما وبحسن نواياهم عليما، يا الله، ما أجمل هذا التنافر اللونى العبثى، كأننا واقعون فى لوحة لفاروق حسنى، أنا وصينية بطيخ حمراء حافلة بالسواد، وطبق جبنة براميلى ينضح ببياض الفورمالين، ورغيفان ناشفان ذهبيان مشوبان بسمرة خفيفة فى بعض المناطق، هل أبكى من اللذة قبل الأكل أم بعده؟، الجوع لم يدع لى وقتا للبكاء، لكننى بكيت بعدها كثيراً وأنا أعض خشب السرير «هاتوا لى الفكهانى الواطى.. عايز أتف عليه قبل ما أموت»، زوجتى تذكرنى بالله لكى لا يكون آخر حظى من الدنيا التف على فكهانى أو شتيمة الذين خلّفوه، لم تعمنى شهوة الانتقام لأن مرارة الوجع كانت قد تكفلت بذلك. ابن البواب الحرك النبيه الذى ذهبوا به لإحضار الفكهانى لعلى أرتاح، عاد يضرب كفا بكف وهو يزف إلينا بشرى أن الفكهانى أسعفوه إلى المستشفى منذ ساعتين، أهتف «الله أكبر.. عدالة السماء»، فتذكرنى زوجتى أن الفكهانى برىء لا محالة فقد أكل من نفس البطيخة التى أسقطتنى، فيرد عليها ابن البواب «لا يا حاجة.. قالوا لى إنه كان واكل كانتالوب». * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]