من المؤكد أن جميع القراء يعلمون أهمية الدور الذى تقوم به وحدات الاستطلاع خلف خطوط العدو فى أوقات الحروب. فهذه الوحدات هى التى تكشف قوات العدو وأحجامها، واتجاهات حركتها. بالتوازى تقوم كتائب المختصين فى لغة العدو وفكره وأدبه ومجتمعه وسياسته بدور مهم فى الحرب وفى السلم للكشف عن أعماق المجتمع المعادى لترشد صانع القرار وقوى التأثير إلى مواطن الخطر أو ترصد معلومات يمكن أن تكون حاسمة إذا عرفناها فى موعدها. إن الرصد المبكر لجرائم اغتيال الأسرى المصريين عام 1956 فى عمل أديب إسرائيلى كان يمكن إن عرفناه فى موعده أن يوجه حركتنا فى توقيتات مناسبة. أقول هذا بمناسبة الجدل الدائر حول التمييز بين واجب تحصيل المعرفة عن العدو والتطبيع الذى يعنى التعامل مع مؤسساته أو أفراده. فى تقديرى أن هناك محاولات صهيونية لاختراق المفاهيم العربية المتعلقة بنظرة الأجيال الجديدة للصراع وللحقوق العربية وهى محاولات بدأت فور توقيع معاهدة السلام عام 1979 وتعززت بعد توقيع الاتفاقية الثقافية عام 1980. من هنا فإننى قمت بإصدار سلسلة من الكتب نشرنا فيها رسائل للدكتوراه من أعمال طلاب الدراسات العليا فى قسم العبرى بجامعة عين شمس، وكان فى المقدمة رسالة حول فكرة المسيح اليهودى المخلص وما يصاحبها من مفاهيم عدوانية من إعداد الدكتورة منى ناظم رئيسة القسم حالياً ورسالة حول صورة العربى فى الأدب الإسرائيلى من إعداد د.محمود صميدة. لقد ساندتنى مؤسسة الاتحاد للصحافة فى أبوظبى وتكفلت دار الهلال بطبع السلسلة التى أطلقنا عليها اسماً دالاً وهو «نحن وهم». إننى إذ أستعيد تلك التجربة التى نفذت فى النصف الثانى من الثمانينيات أرجو من وزارة الثقافة تبنى اقتراحى بنشر سلسلة جديدة من الرسائل الجامعية التى تعبر عن التزام علمى وطنى عميق. إننى مستعد كما حدث فى السلسلة الأولى للإشراف على إعادة صياغة الرسائل لتصلح للنشر العام، وكتابة المقدمات العلمية اللازمة لها. إن هذا العمل سيوفر لأجيالنا الجديدة المعرفة اللازمة عن العدو فى حوارات الإنترنت التى تقتضى أن يكون الشباب العربى متمتعاً بالمعرفة العميقة حتى لا يشعر بالإحباط فى الحوارات مع الشبان الأجانب وهو ما شكا لى منه بعض الإخوة الصحفيين. ولكى أُظهر أهمية الاقتراح فى حماية العقل العربى من ادعاءات البراءة الصهيونية أقدم نموذجاً للكشف العلمى المتواصل الذى تحققه أقسام الدراسات العبرية فى الجامعات المصرية جيلاً بعد جيل، وهنا أرى من الضرورى أن أؤكد أننى وجدت من المفيد بالنسبة للأجيال العربية المثقفة الجديدة أن أعيد طبع أول كتاب صدر فى المكتبة العربية عن الأدب العبرى المعاصر لتسجيل تجربة الحرب وما يحيط بها من دوافع ومفاهيم فكرية عدوانية وتوسعية، وما يترتب عليها من آثار نفسية وثقافية فى المجتمع الإسرائيلى. إنه الكتاب الذى نشرته سلسلة دار الهلال فى يونيو 1972 تحت عنوان «أضواء على الأدب الصهيونى المعاصر» وهو من تأليفى وكنت معيداً أُعد الدكتوراه فى ذلك الوقت. لقد أصدرت طبعة ثانية من الكتاب المذكور بعد أن أضفت إليه ما يكشف تفاعلات المجتمع الإسرائيلى مع حرب 1973 المجيدة وقد نشرتها المؤسسة العربية للنشر فى بيروت عام 1976. خلال أسابيع سأدفع إلى المطبعة بالطبعة الجديدة لتكون ذخيرة معرفية عن تلك الفترة من الصراع والحروب مع إسرائيل ولنؤدى دوراً متجدداً فى تحصين العقل العربى، وفى تمكينه من الإمساك بمفاتيح الفكر الإسرائيلى كما يعكسها الإنتاج الأدبى. اسمحوا لى فى هذه المناسبة أن أوجه التقدير العميق لأخى ورفيق خندق القتال المعرفى منذ كنا معيدين نمثل الجيل الأول فى كتيبة الدراسات العبرية الحديثة والمعاصرة. لقد قدم أخى الراحل الأستاذ الدكتور رشاد عبدالله الشامى جهوداً علمية متميزة فى الكشف عن أعماق العدو بالصفة التى كنا متفقين عليها وهى صفة جندى الاستطلاع المصرى على الحدود الشرقية. لقد أشرف الراحل العزيز على تلميذ مجيد من تلاميذنا فى قسم الدراسات العبرية بآداب عين شمس وهو الآن الدكتور عبدالرازق سيد سليمان، الذى قدم رسالة الماجستير المذكورة فى عنوان المقال تحت عنوان «الواقعية فى النثر العبرى الحديث من خلال الإنتاج الروائى لأهارون ميجد»، التى أجيزت عام 1996 أى منذ ثلاث عشرة سنة. فى هذه الرسالة رصد الباحث كشفاً مبكراً لعمليات اغتيال الأسرى المصريين التى شغلت الشعب المصرى فى الثمانينيات بعد أن توالت شهادات الجنود والضباط الإسرائيليين الذين شاركوا فى تنفيذ هذه العمليات القذرة مع تقادم الزمن. فى الرواية يقدم الأديب أهارون ميجد فصلاً عن محاكمة عسكرية يمثل أمامها بطل الرواية التى تحمل عنوان «نصيب العبيط»، من هذه المحاكمة نعرف أن الجندى العبيط يحاكم بتهمة الامتناع عن تنفيذ أمر عسكرى صدر له بقتل الأسرى الموجودين فى المعسكر الذى كلف بحراسته. لقد نُشرت الرواية عام 1960 وهى تتحدث صراحة عن حرب العدوان الثلاثى التى شنتها كل من إسرائيل وفرنسا وبريطانيا، فى البداية نعرف أن البطل العبيط كان يعانى مشاكل نفسية وتعقداً فى علاقاته الاجتماعية، لدرجة أنه كان يفكر فى الانتحار غير أن حالته النفسية تتحسن عندما يستدعى إلى القتال فيهتف بالشكر لله أن أنقذه من الموت بالانتحار عن طريق الانضمام إلى الجيش وهى إشارة دالة على الدور الذى تؤديه الحرب فى حل المشكلات الاجتماعية والصراعات الداخلية فى إسرائيل عن طريق توحيد الصفوف. إن الحوار الذى يضعه الروائى على لسان القاضى العسكرى والجندى المتهم يكشف لنا عن المنطق الكامن وراء اغتيال الأسرى بدم بارد. إنه ليس منطقاً انفعالياً ضد العدو يسيطر على جندى منفرد ومجموعة جنود، ولكنه منطق يمثل منهج تفكير هادئاً وبارداً تم طبخه فى بوتقة الفكر الصهيونى العدوانى على مهل، كوصفة ضرورية للتخلص من الوجود العربى وكسر إرادة المقاومة والقتال. إن القاضى يطلق هذا المنطق فى وجه الجندى المتهم فهو متهم بأنه لم ينفذ الوصية الملزمة لجنود الجيش وضباطه «اقتل الآخر قبل أن يقتلك» إن هذا المنطق لا يطبق هنا على جنود محاربين فى ساحة القتال، ولكنه يطبق على جنود عُزَّل، استسلموا وألقوا سلاحهم وأصبحوا فى وضع الأسير الذى تحميه القوانين الإنسانية. إن حجة الجندى فى عدم تنفيذ الأمر بفتح رشاشه على الأسرى لا تقنع القاضى العسكرى، فالجندى يقول إنه لا يستطيع أن يقتل إنساناً وهو يرى وجهه فى النور، ولكن القاضى يسخر من هذه المشاعر الضعيفة والسخيفة التى لا تليق بجنود الجيش الإسرائيلى. يرفض القاضى كل محاولات الجندى لإيضاح أن العدالة لا تتفق مع قتل الأسرى واغتيالهم وهم مكبلون، ولكن القاضى الذى يمثل صوته قيم الجيش والقيم الصهيونية الحاكمة للعقل الإسرائيلى وسلوكه تجاه العرب يرفض كل هذا السخف. فالأسرى فى نظره قتلة وسفاحون وإذا لم يموتوا فإنهم سيهددون الجندى نفسه، والجيش والدولة الإسرائيلية، ولذا يجب أن يقتلوا فى هدوء، وأن يعاقب كل جندى يتراخى أو يضعف عن تنفيذ أوامر قتلهم، إنه المنطق السائد فى معاملة العرب حتى اليوم. أرجو أن تكون أهمية هذا الكشف عن الرصد المبكر واضحة.