نشرت صحيفة «المصرى اليوم» خبراً عن ملتقى عقد فى الإسكندرية لمتابعة قضايا الأسرة والسكان، جاء فيه أن السفيرة مشيرة الوزيرة قالت إن المشكلة هى أن الحكومة «دلعت» المواطن المصرى.. وجاء أيضاً بالخبر أنها قالت «إن المجتمع المصرى يعيش مظاهر عدم الانتماء خاصة بين الطبقات الفقيرة والكادحة».. وأنا فى الحقيقة أتصور أننى أفهم ما كانت تقصده الوزيرة بالفعل، ولكن بسبب ما ارتأته من أساليب اللياقة فى الحديث واختيار الكلمات الأكثر تهذيباً فإنها قالت عبارتها التى لا تغضب النظام الذى تعمل من خلاله وهذا هو الأهم، فى نفس الوقت الذى أثارت فيه غيظ الغالبية من المواطنين المطحونين ليل نهار، وهذا ليس مهماً على أى حال. إننى أتخيل أن السفيرة الوزيرة النشطة ذات العقلية الواعية المتفتحة، كانت تقصد أشياء أخرى غير التى توحى بها عبارتها المباشرة.. فظاهر الحياة العامة فى مصر يوحى فعلاً بأن المواطن المصرى «مدلع» وأن الحكومة هى التى تدفعه إلى هذا «الدلع».. وربما يكون هذا هو الانطباع الذى يخرج به أى زائر للقاهرة فى الوهلة الأولى.. فهو يرى أناساً يفعلون ما يحلو لهم أن يفعلوه دون أى محاسبة أو مساءلة ودون اعتبار لأى قانون أو نظام، ودون التفكير مطلقاً فيما سوف يحدثه فعله هذا من إزعاج أو حتى تدمير لمجتمعه أو بلده.. أليس من الطبيعى أن يحسد هذا الشعب على ما هو فيه من «دلع»؟! الأمثلة لا تعد ولا تحصى، والصورة فيها من المهازل والمساخر والفوضى ما يشيب لهوله الولدان، ربما لا يعرفها العالم الآن ولا منذ سالف العصر والأوان.. فأى زوجين ينجبان ما شاءا من الأطفال، ويفعلان بأبنائهما ما يريدان.. يعلمانهم أو لا يعلمانهم.. يربيانهم أو يتركانهم فى الشوارع والطرقات.. أو حتى يبيعانهم إذا شاءا.. والأطفال يذهبون للمدارس أو لا يذهبون.. والمعلمون يتقاضون أجورهم الضعيفة من المدارس ولا يعملون، ثم يعلمون فى المنازل بالأجور التى يطلبونها.. التجار يتفقون على رفع الأسعار فيرفعونها، ويبيعون البضائع المغشوشة والمهربة وحتى المسروقة جهاراً نهاراً ولا يخشون أحداً.. وكل فرد يتصور أن الشارع ملكه.. يسير فيه على قدمه أو سيارته حيثما أراد وفى أى اتجاه ويعبر من أى مكان ويقف فى أى مكان.. يفرش على أرض الشارع بضاعته أو حتى ينام فيه ويقضى حاجته.. المواطنون يحتلون الأرصفة ويغلقون الشوارع للمآتم والحفلات.. ويتفنون فى إبداع كل مظاهر الضجيج من الكلاكسات حتى الميكروفونات.. لا يخشون سلطة ولا حكومة ولا قرارات.. فكل شخص وكل مخالفة لها عند الضرورة ثمن يقدر على دفعه البسطاء والبهوات!! أليس كل هذا دلع!! الجهلة ومحدودو القدرات والذين بالكاد يستطيعون القراءة والكتابة تحفظ لهم القوانين نصف مقاعد المجالس الشعبية والمحلية، ليكونوا طوع أمر البهوات والباشوات!! أليس هذا دلع؟! كما قلت الأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى وتحتاج إلى كتاب كبير، وليس مجرد مقال، ولكن النظرة السليمة والأمينة للأمور لا يجب أن تسمى ما ذكرته أمثلة قليلة وغيرها كثير دلعاً، ولكنه النتيجة الحتمية لعملية «إفساد» للمواطن المصرى على مدى العقود الأربعة الأخيرة والتى تسبب فيها «النظام» وليست حكومات الموظفين المتعاقدة، وكانت النتيجة الطبيعية له هى ما ذكرته الوزيرة الفاضلة من تفشى مظاهر عدم الانتماء، والتى هى ليست بين الطبقات الفقيرة والكادحة فقط كما صرحت سيادتها، ولكنها للأسف الشديد هى فى القمة أكثر منها فى القاع.. ولكن أهل القمة يسهل عليهم الانسلاخ عن بلدهم وهويتهم والحصول على جنسية أخرى، وهو الحادث للغالب الأعم منهم، فى حين يدفع الفقراء حتى أرواحهم ثمناً لهذا! المشكلة يا سيدتى لخصها عبقرى الكتابة الساخرة لهذا الزمان جلال عامر فى أحد تخاريفه اليومية حيث قال «إن فى مصر الآن أصبح الفساد مثل الماء له شبكة مواسير لكن الخزان فوق السطوح»! والعقل والمنطق لابد أن يصل إلى أن النظام القائم على الفساد المؤسسى، لابد أن يفسد الناس.. إن فيضان الفساد قد جلب معه فيضاناً من الأمراض الاجتماعية الخطيرة، ربما كان أكثرها شيوعاً وخطورة ذلك النفاق السياسى والاجتماعى الذى تنطق به ألسنة مسؤولى هذه الدولة وقادتها على جميع المستويات وهم يخاطبون عامة الشعب.. وبالتالى لم يكن غريباً أن يشيع النفاق بين عموم الناس، ومع ارتفاع معدلات الرشوة والمحسوبية والواسطة فى الحصول على العمل والترقى فيه، وفى ظل تطويع القوانين والالتفاف عليها ومشاعر الخوف من السلطة المطلقة للحاكم الفرد، التى لا رادع لها من دستور أو قانون.. فى ظل هذا كله كان من الطبيعى أن يكون الناتج فاسداً.