أحسد أولئك الذى يتمتعون ب«فضيلة» ضبط النفس، ولا أتمنى عليهم زوال تلك النعمة، فبدونهم تتحول شوارعنا إلى مصحة مفتوحة للأمراض العقلية، يفقد فيها الجميع صوابهم، لأتفه الأسباب قبل أعظمها، على غرار ما نرى يومياً فى الإشارات ومواقف السيارات وعند مفارق الطرق وبين المارة والموظفين والباعة والمشترين.. إلخ، فماذ الذى حدث؟ وأين هى تلك «الابتسامة» التى كنا نتغنى تاريخياً بأنها تميز «المصرى» عن سائر مواطنى الأرض! ما أراه يومياً، ولعلكم تصطدمون به أيضاً، هو حالة من العداء المسبق، والتحفز الدائم، والاتهام الجاهز، بين الجميع، راكبين ومارة، فالإشارات، التى تكاد تتحول فى الخارج، إلى فرصة رقيقة لتبادل التحية بين قائدى السيارات كلما تلاقت الأعين مصادفة، أصبحت هنا «استراحة محارب»، ينظر فيها الجاران لبعضهما البعض شزراً عبر نوافذ مغلقة على سيارة فارهة مكيفة تعزل كل منهما عن الآخر، قبل أن يستأنفا سباقهما غير المعلن على ساحة المعركة (الشارع)، وسط ذهول المتفجرين من المارة وقائدى السيارات، من أولئك الذين يتمتعون ب«الفضيلة» سابقة الذكر. ففى حين أن «الذوق» مفترض أن يكون هو القاعدة، تحول إلى استثناء، وأصبحت أحصى جيداً، على أصابع اليدين، المرات القليلة التى رأيت فيها مشكلة مرورية تعامل فيها أحدهم بتحضر، فى حين سقطت من ذاكرتى عشرات بل مئات المرات التى تفاقم فيها الوضع ليصل إلى حد السباب والاشتباك بالأيدى وأحيانا المطاردة بالسيارات، فأمام كم الأخطاء التى تقع كل لحظة نتيجة غياب القانون، فقد غالبيتنا القدرة على التماس العذر للآخر، ومن ثم كظم الغيظ والتحكم فى الغضب، غالبيتنا يتصور أنه دائماً «معذور» وعلى الآخر أن يتحمله. المارة يعبرون الطريق وإشارتهم حمراء، معرضين حياتهم للخطر، لأن الإشارات نادراً ما تعمل أساساً، فهم «معذورون»، وقائدو السيارات لا يكادون يرون إشارتهم خضراء، حتى يقفزوا بعرباتهم معرضين المارة للخطر، هرباً من الانتظار لساعات أخرى فى الإشارة نفسها، فهم «معذورون»، ومن يترجل يضطر للسير فى الشارع، معرضاً حياته مرة أخرى للخطر، لأنه لا يجد رصيفاً آدمياً، فهو «معذور»، ومن يستقل سيارته فى ذات الشارع، ويفاجأ ببلاعة مفتوحة أو مطب صناعى، فينحرف بسيارته فجأة غصباً عنه، معرضاً حياة ذاك المواطن المترجل للخطر «معذور» أيضاً. وصاحب الكشك يضع «الحواجز» أمامه، لمنع السيارات من الركون، «لأن ده محل رزق»، فهو «معذور»، وصاحب السيارة يستقبله رجال المرور فى أماكن كثيرة مخصصة قانوناً بإشارة يد حازمة وكلمة «ممنوع»، التى يمكن بقليل من الجنيهات أن تتحول إلى «مسموح بس متتأخريش»، أما إذا كان لقائد السيارة ضمير يمنعه من الرشوة، أو إذا كان جيبه خالياً من «الفكة»، فسيضطر بطبيعة الحال إلى الشجار مع صاحب الكشك! لمُت نفسى مراراً - ومازلت – لتغيير وجهة نظرى فى أحوال مرور بلدنا، وقلت إن عصبيتى هى التى تصور لى الأمور بهذا السوء، تذكرت أول مرة سمعت فيها عبارة جميلة، قالتها مدرسة التربية الدينية فى المرحلة الثانوية، وهى تعلمنا ببشاشة أن «تبسمك فى وجه أخيك صدقة»، فانشرح صدرى، وقررت أن أستدعى المقولة وأطبقها، وفى أول إشارة، نظرت بجوارى، وتمنيت ألا يكون «أخى» هذا، الذى سأشرع بمبادلته الابتسامة، شاباً كى لا أتحرج - على الأقل فى البداية - فإذا به رجل اشتعل رأسه شيباً، تنفست الصعداء، وحييته بابتسامة مقتضبة وأشحت بوجهى سريعاً، فإذا به يتتبعنى وقد امتلأت رأسه بالظنون، فلم يسعفنى بالنهاية غير استدعاء تلك «التكشيرة» مجدداً، ولسان حالى يتحسر على من يتصورون أن «تبسمك فى وجه أخيك.. معاكسة».