وجهها هذه المرة لم أره بهذا الشكل منذ أكثر من ثلاث سنوات، هى عمر معاناتها للحصول على الطلاق من زوجها الذى لم تدم علاقتها به أكثر من شهر واحد.. اكتشفت بعدها أنه مدمن مخدرات وأشياء أخرى.. دخلت علىَّ مبتسمة فقد حصلت أخيرًا على الطلاق بعد «مرمطة» 3 سنوات فى المحاكم.. قلت لها مبروك.. قالت لا.. لسه الصيغة التنفيذية، وهنا بدأت حكاية جديدة تعانى منها نساء كثيرات ما بين المحاكم والبيروقراطية. فصديقتى الشابة لا يمكن أن تكون فى عرف المجتمع حرة طليقة إلا إذا حصلت على الصيغة التنفيذية لحكم الطلاق، وبالتالى قسيمة طلاق صادرة من السجل المدنى، كى تغير على أساسها بطاقتها القومية. قلت لها «وماله إجراءات بسيطة تهون»، لكن الباقى لم يكن سهلا على الإطلاق. أيام وساعات فى طابور البيروقراطية المصرية التاريخى، الذى يحكى عنه فى حكايات ألف ليلة، وتظهر فيه كل الشخصيات المخيفة بدءا من الموظف «الأشكيف»، مرورا «بأُمنا الغولة»، وصولا إلى أبورجل مسلوخة.. أو هكذا بدا الموظفون لصديقتى الشابة، التى فقدت وزنها وأحيانا عقلها على مدى السنين. طبعا كل حركة.. كل ساكنة للحصول على تلك الصيغة التنفيذية تظهر لك عبارة «بكم» وفين الحلاوة يا أستاذة؟! إلخ. بدأت الرحلة من ورقة المحكمة إلى مصلحة الأحوال المدنية فى العباسية.. هناك من على الباب يقولون لك: لا والله.. الموضوع ده مش عندنا.. حتى تقنع الحارس – ببعض الحلاوة – إن الموضوع عندهم. وفى دهاليز المصلحة تروح بلاد وبلاد.. تركب أفيال وطرقات.. من غرفة إلى غرفة، من الشمال إلى اليمين من موظف يترك عمله لصلاتى الظهر والعصر وما بينهما.. إلى ست غلبانة تنتظر ورقتها، جالسة على الأرض تأكل طبق الفول المدمس فى طرقات المصلحة.. صورة واقعية رائعة لأستاذنا نجيب محفوظ. «صبراً آل ياسر».. كتبت صديقتى الطلب ثم وقع الضابط المسؤول الذى وجهها إلى السجل المدنى الذى يتبعه مسكنها، لكنه نسى فى الزحمة أن يذكرها بشراء استمارة 40 – 22.. فى البريد قالوا لها: لا والله ما فيش الاستمارة دى عندنا، وفى القسم: استمارة إيه.. زواج؟! «لا والله يا عم طلاق طلاق».. يا ساتر ليه يا بنتى كده؟! ونبدأ فى حوار طويل حتى الحصول على الاستمارة. أخيرا وصلت بها الرحلة إلى السجل المدنى. نظر إليها الموظف مكفهرا وتعلو رأسه زبيبة سوداء: استنى الاستاذ إسماعيل.. بييجى الساعة 5. حاضر.. وإن كان لك عند الأستاذ إسماعيل حاجة لازم تستناه.. وذهبت للأستاذ إسماعيل الساعة 5.. ومن الطرقة سمعت صوته يصرخ فى الطابور الطويل.. «يا جماعة حرام عليكوا.. يعنى افترضوا إن الأستاذ إسماعيل مات.. ح تعملوا إيه.. أعمل إيه أنا بقى فى كل الناس دى.. إرحمونى».. معلش يا أستاذ إسماعيل.. اشرب شاى يا أستاذ إسماعيل.. ومن الأستاذ إسماعيل، الذى يتمنى الموت، إلى الأستاذ شريف.. لكن.. يا للمفاجأة!! الأستاذ شريف أجازة النهاردة. بس العمل فى المصلحة تمام.. هناك الأستاذ عمرو نائبا عنه.. أرجوك يا أستاذ عمرو خلصنى من فضلك! مش فاهم مستعجلة على الطلاق كده ليه.. ما تفكرى شوية؟! - أنا بقى لى 3 سنين إرحمنى، ودى قسيمة زواج مش طلاق اللى إنت بتكتبها! - زواج !! ياه صحيح.. طيب آدى قسيمة الطلاق ... فكرى شوية. كتب الأستاذ عمرو القسيمة.. لكن وقع خطأ بسيط.. كتب اسم الزوج خطأ.. صديقتى تجيد القراءة - لا أعرف ماذا يحدث لمن لا يقرأ - الاسم خطأ يا أستاذ عمرو وكمان التاريخ.. كده القسيمة خطأ. - يوه بقى هو الاسم كده صح. - أنا اللى كنت متجوزاه مش إنت. - إنت بتردى علىَّ.. طب مش شغال.. تعالى بكره!! أخيرًا وبعد محايلات وحلاوات اقتنع الأستاذ عمرو، صحح الاسم وأخذت صديقتى قسيمة طلاقها أخيرًا من الحكومة المصرية. حكاية تخص صديقتى فقط؟!.. لا إنها حكاية تخص الآلاف.. بل الملايين.. إنها البيروقراطية التى تنخر فى نظامنا منذ عهد الفراعنة أو ربما البيروقراطية التى تقيم نظامنا وتجعل مصر محروسة.. لكن أولادها تعساء. [email protected]