مليارات الدولارات من الغاز المصرى المستباح لإسرائيل - فى عقد إذعان مبهم - ليست هى ثروتنا الوحيدة المهدرة، ولا أراضى البناء التى نهبت بتراب الفلوس لتباع بذهب عيار أربعة وعشرين.. ولا عقود البترول المجحفة، ولا السبعة عشر مليون أثر فرعونى التى هربت بالكامل خارج مصر.. ولا مصانع القطاع العام التى تفككت وبيعت كأراضى بناء، ولا مارينا بقصورها الأسطورية التى بنتها الحكومة للحكومة!، ولا قروض البنوك المنهوبة بالمليارات لحفنة من لصوص الأعمال، ولا المبيدات المسرطنة والماء الأسود والهواء الملوث.. كل هذه الأشياء – ومثلها بالعشرات – لا تعد شيئا بجوار إهدار ثروة الوطن الحقيقية: الإنسان. أنا لا أستطيع التفسير، لكن هناك شيئاً مدهشا فى بنية هذا البلد. شيئاً فى تاريخها ووهجها وماضيها، فى ترابها وهوائها ونيلها.. شيئاً لا يمكن وصف كنهه أو سبر غوره يفرز الموهوبين بلا انقطاع..لكن المأساة تكمن فى أن القادرين على الحلم لا يملكون القرار، والمالكين للقرار غير راغبين فى الحلم، وربما غير قادرين عليه من الأساس. لو حاولت أن أحصى عدد الذين صادفتهم من الحالمين بمستقبل أفضل لوطنهم لما استطعت!. المتوهجون الراغبون فى العمل بلا مقابل، الجاهزون بالخطط الرائعة والاستشراف المستقبلي، أملهم أن تحتل بلادهم المكانة اللائقة بها بين سائر الأمم. لكنهم – واحسرتاه – لا يملكون القرار. إهدار الثروات الطبيعية جريمة وإهدار الإنسان القادر على تنميتها جريمة أشد. خذ عندك مثلا هذا الرجل عرفته عن قرب. كانت طفولته تبشر بمشروع عبقرى، بقامة راسخة يعلو بها الوطن، بعقل قادر على تغيير شىء أو إضافة شيء أو ابتكار شىء.. الأول دائما، وبلا منافسة أو منازعة.. بينه وبين من يليه فراسخ .واحد من هؤلاء القادرين على إثارة الدهشة أينما ذهب. لكن لم يستطع أن يقدم شيئا للوطن رغم تلهفه لذلك وعزوفه عن النفع المادي. تربص له أعداء النجاح فى كل مكان ذهب إليه، الأقزام الذين يخشون مجرد المقارنة، وفى كل مرة يصطدم بالحائط، ومهما حاول أن يفتح بابا أو ينشئ نافذة سدوا الباب وأوصدوا النافذة. وانتهى به الحال حزينا محبطا، عبقريا مع وقف التنفيذ، لا هو قادر أن يحيا كسائر الناس وفى داخله كل هذا الوهج، ولا قادر على إبراز مواهبه وتغيير واقعه. أسير فى الطرقات فيدهمنى الغم.. شوارع غير ممهدة وأسفلت مكسور.. أرصفة مهشمة، بعضها على ارتفاع نصف متر. ومجارى تجف وتفيض. وأكداس القمامة فى كل مكان. أقول لنفسى: أهذه بلادى!!، وتلك رحلة عمرى التى أوشكت على الانتهاء!!، أولد وأموت فى هذا المستنقع، فيما يتمتع آخرون بخيرات بلادى، ويملكون القدرة على التغيير، ثم – ويا للعجب - لا يفعلون!!. كانت تجربة عادل لبيب فى «قنا» مثالا واضحا لما يمكن أن تصبح عليه بلادنا إذا توافرت الإرادة مع الإخلاص. كيف استطاع – بنفس الميزانية – أن يحولها من منفى إلى واحة، من مدينة غارقة فى البؤس إلى مدينة شبه أوروبية. لا أدرى لماذا تعثرت تجربته فى الإسكندرية، ولا هو موضوع المقال هنا. معظم البلاد كانت على هذا النحو البائس قبل فترة زمنية تطول أو تقصر. من يشاهد أفلام الغرب يعرف كيف كانت أمريكا منذ مائة وخمسين عاما فقط. ومن قرأ الأدب الفرنسى فى القرن التاسع عشر يدهشه البؤس والفقر. تحفة بريخت «البنسات الثلاثة» تتحدث عن الثقوب الموجودة فى قلب الإمبراطورية الإنجليزية، كيف كان الجنود الإنجليز يتضورون جوعا حد التسول بعد العودة مشوهين فى الحرب. لن أتحدث عن ألمانيا بعد الحرب، أو اليابان بعد تدمير هيروشيما، أو بلاد لم يكن يحسب لها شأن مثل كوريا وماليزيا. كل هذه البلاد عرفت الفقر حد الجوع، والنار والدمار، لكنها نهضت كطائر العنقاء الأسطورى بسبب آلية واضحة تضمن وصول الأفضل إلى دفة السفينة ليقودها صوب شاطئ النجاة.حدث هذا فى كل العالم باستثناء مصر. لهفى عليك يا مصر، أيتها السمراء الباسلة، الصابرة أبد الدهر. يا أم المعذبين وحضن المساكين، يا مهد الحضارة وفجر الضمير. صبرا، فلكل ليل آخر وبعد الإظلام فجر. ربما لن نكون موجودين لنشهده، لكننا سنكون فرحين به حتى لو كنا رفاتا فى غيابة القبر.