الدولة، أى دولة، تحتاج إلى عقول يقظة وضمائر مستنيرة، أما أصحاب المصالح والمهللون والمختبئون خلف ستائر السياسة وماسحو الجوخ فلا يملكون إلا معاول هدم، وإن تسيّدوا يمسك المرض العضال بمفاصل الدولة. هذا حاصل فى مصر، القرارات أهواء، والمناقشات ثرثرة، وكلام المسؤولين هواء، والحقيقة نسبية وقابلة للتعديل، والنتائج وليدة كذب، هكذا يكون الحال عند مناقشة الأمور الجادة والحيوية، وآخرها محنة العلاوة الاجتماعية. وزير المالية لم يكن راغباً فى تقديم منحة هذا العام لأن ما عنده من مال مصر لا يكفى إلا لدعم المصدّرين ورجال الأعمال، بدليل تشجيعه فكرة إلغاء العلاوة وتحويل الأموال المخصصة لها إلى مشاريع استثمارية لتشغيل العاطلين، وكأن علاوة البائسين هى التى أوقفت قطار المشاريع الاستثمارية، وبدليل أيضا أنه أعلن عن أن نسبة العلاوة لن تزيد على 5%، وليس هناك موارد لأكثر من ذلك، وأيَّده بشدة رئيس لجنة الخطة والموازنة فى مجلس الشعب المهندس أحمد عز. الوزير يتصرف كأنه يقتطع من جيبه، ونائب الشعب لا يعرف الفقراء من الموظفين الذين يشيّدون أبراجاً من الأحلام على هذه العلاوة. المدهش أن الوزير والنائب انقلبا تماما وغيَّرا كلامهما تماماً عندما طلب الرئيس حسنى مبارك أن تكون العلاوة 10% وأشادا بحكمة الرئيس وانحيازه للفقراء. الوزير والنائب لا يعملان وفق منهج، ويملكان شجاعة تكذيب ما جاء على ألسنتهما وحفظته أوراقهما، ليس من قبيل فضيلة الاعتراف بالخطأ، ولكن على طريقة مرضى ألزهايمر أو الغيبوبة. الوزير، والنائب البرلمانى والقطب الحزبى والمالى، يريدان نسف العلاوة الاجتماعية التى تعمل، بشكل ثابت، على تحسين أحوال الموظفين منذ عام 1987، ولولاها لمات الموظفون من الجوع، ولكان حال الموظف المصرى أشد بؤسا وفقرا من الآن. أحمد عز قال قبل قرار الرئيس: إن أى ارتفاع فى قيمة العلاوة عن 5% سيكون على حساب الاستثمار العام. لكنه نسى هذا الكلام بعد أيام قليلة، وكان أول المشيدين وأكبر المهللين بقرار الرئيس. وزارة المالية قالت إنها تبحث عن 3 مليارات جنيه لتغطية علاوة 5% فى ظل تراجع موارد الدولة، ثم رحب الوزير بعلاوة 10%. فهل مثل هؤلاء يمكن أن يكونوا قادة للوطن؟ ومتى يمكن أن نصدقهم؟ وهل يمكن الوثوق بهم تحت أى ظروف؟ كيف يرتضى هؤلاء العمل من منطلقات شخصية ومصالحية بحتة حتى لو أضر ذلك بالسواد الأعظم من الشعب المصرى؟ وهل رغبة رجل أعمال فى عدم دفع علاوة للعاملين بشركاته ومصانعه تستلزم فرض ذلك على كل موظفى مصر؟ وهل يمكن أن نسمع قريبا عن مشروع برلمانى لإلغاء القانون 101 لسنة 1987 الخاص بدورية العلاوة، بحجة الأزمة المالية العالمية، أو بحجة عجز الموازنة العامة للدولة، أو بحجة منع التجار من استغلال الموظفين برفع الأسعار فور إقرار العلاوة، وكأننا فى سوق وليس دولة لديها قوانين وأجهزة تضبط الأسواق وتمنع الاستغلال، وليس العكس كما حدث مع علاوة العام الماضى، حين كانت الدولة أول المبادرين برفع الأسعار، بل لم تنتظر حتى تبرد العلاوة فى جيوب الناس، وكان فى مقدمة المدافعين عن ذلك أمين تنظيم الحزب الوطنى الغاصب، بل ظهر فى الفضائيات وتحدث فى الصحف بحملة مدبرة يبرر أسباب رفع الأسعار. وإذا حدث إلغاء لقانون العلاوة بتخطيط من الوزير والرجل الأول فى البرلمان، فسيكون التخطيط محكماً والقرار بإجماع الأغلبية، وساعتها سنسأل: من يملك إحباط هذه الجريمة غير الرئيس مبارك؟