فى مايو 2003 قصدت الجزائر لتغطية الزلزال المدمر الذى ضرب منطقة بومرداس.. بعد انتهاء مهمتى دعانى زميل جزائرى على غداء فى أحد المطاعم.. أراد الترحيب بى على طريقته فقال للجرسون: اهتم بنا، لدينا ضيف عزيز من الشقيقة مصر!.. رمقنى الجرسون بنظرة نارية وكأنه اكتشف عدوا لدودا وقال بهدوء: أنا أكره مصر والمصريين!.. لم أتمالك نفسى فدخلت فى نوبة ضحك، ساهمت فى التخفيفْ من حرج وارتباك الزميل.. سألتُ الجرسون: هل تشجع كرة القدم؟!.. كان هذا السؤال مفتاحا لحل اللغز، أجاب بحماس: طبعا، لهذا السبب أكرهكم.. نحن لن ننسى ما فعلتموه معنا فى ستاد القاهرة عام 1989 حين صعدتم على حسابنا إلى كأس العالم!.. فى تلك اللحظة انفجر زميلى فى الجرسون ووصفه بقلة الذوق وبالتفاهة، وكاد الموقف أن يتطور بينهما إلى درجة التشابك بالأيدى لولا تدخل صاحب المطعم الذى انحاز لزميلى فوبخ الجرسون وقدم لنا كل آيات الاعتذار!.. تقفز هذه الحادثة من الذاكرة مع حوادث مشابهة، وقعت أثناء سنوات الدراسة فى روسيا، كان أبطالها زملاء جزائريون، أثبتوا بجدارة من خلال طبعهم الحاد أنهم صعايدة المغرب العربى!.. ورغم ذلك لم أكره الجزائر، ولن أكرهها حتى لو ذهب مقاولو برامج التوك شو فى القنوات التليفزيونية المصرية والجزائرية أبعد مما وصلوا إليه اليوم!.. لن أكره الجزائر حتى لو علت صرخات المتاجرين بحدث رياضى ليجعلوه معركة قومية، وليوزعوا من خلاله صكوك الوطنية واتهامات التخوين!.. معركتنا القومية الحقيقية فى مصر هى البطالة وارتفاع الأسعار والفقر وتدهور مستوى المعيشة والعشوائيات والفساد والعنف الاجتماعى، وهى المعركة الحقيقية فى الجزائر نفسها!.. الهوجة الحالية فى كلا البلدين ليست من قبيل الصدفة، بل بفعل فاعل، سقطتْ على حِجره الساحرةُ المستديرة فهتف: وجدتُها! ناجاها قائلا: أنتِ الدواءُ المخدر للغلابة لينسوا مرارة العيش..أخرِجى من صدورهم شحنات الغضب واليأس والإحباط، حوليها إلى نيران تلتهم العلمين المصرى والجزائرى، وحجارة تلقى على أتوبيس اللاعبين الجزائريين فى القاهرة وتدمر مكاتب الشركات المصرية فى الجزائر، وحملات إعلامية شعواء تتبنى الكذب والمبالغة، ولا تستثنى شيئا، لا التاريخ ولا الدين ولا الثقافة ولا حتى دماء الشهداء! أخذتنا العزة بالإثم فلم يسأل أحد: كم صرفنا من أموال دافعى الضرائب على لاعبى المنتخب؟.. لماذا ظهر هؤلاء المغاوير فى استاد أم درمان كأرانب مذعورة؟!.. ماذا نقصهم كى يؤدوا مباراة السودان كما أدوا المباراة السابقة فى القاهرة؟ بأى حق يقبلون التكريم المادى والمعنوى؟!.. يجب أن نتحلى بالشجاعة ونعترف أننا وجدنا فى تصرفات همجية لمشجعين جزائريين فى الخرطوم شماعة لنعلق عليها فشلنا.. زمان كانت حجج الهزيمة الكروية تتوزع بالتساوى بين حكم المبارة وسوء حالة الملعب وأعمال السحر وارتفاع درجة الحرارة، وكأن لاعبينا يا حرام مصنوعين من الأيس كريم!.. لم يتغير شىء، بل حاول البعض أن يجد فى الإخوة السودانيين شماعةً أخرى للفشل!.. حتى السودان، البلد الوحيد الباقى لنا من بلدان حوض النيل تريدون خسارته يا عالم؟؟!!..الحمد لله أن تعليمات عليا ردت الأمور بهذا الخصوص إلى العقل والمنطق قبل انطلاق المظاهرات باتجاه السفارة السودانية!..والشكر لله أن تعليمات مشابهة دعت إلى ضبط النفس وتجنب الإنفعال تجاه الجزائر قبل أن تشتعل حربٌ كتلك التى خاضتها هندوراس والسلفادور منذ أربعين عاما بسبب مباراة كرة قدم!.. فى ظروف الهوجة تصبح كلمة الحق نشازا.. لذا لا أحد من الموتورين سيجيبك بصدق: كم محضرا سجلته الشرطة لوقائع تحطيم سيارات (مصرية!) ليلة فوزنا على الجزائر فى القاهرة؟! لماذا ألبسنا كلبا فانلة المنتخب الجزائرى وطفنا به ليلتها مهللين فى شارع جامعة الدول العربية؟!.. الأمر ذاته ينطبق على أطراف جزائرية على رأسها السفير الجزائرى لدى مصر الذى ساعد فى إشعال نار الأزمة بإصداره تصريحات ظاهرها كان الرحمة وباطنها العذاب، وكذلك الصحف الجزائرية معدومة الضمير التى خرجت بمانشيتات سوداء تنعى سقوط قتلى جزائريين فى القاهرة وهو ما لعب الدور الأساسى فى تأجيج المشاعر فى الجزائر!.. من حسن الحظ أن هناك مؤشرات على وجود عقلاء فى حكومتنا يوقنون أن قوى إقليمية معينة تسعى لتحويل برود العلاقات المصرية الجزائرية إلى أزمة سياسية تُفضى إلى قطيعة، ويدركون أن التجربة الاستثمارية المصرية الوحيدة التى يمكن وصفها بالناجحة هى فى الجزائر.. كعكةٌ حجمها ستة مليارات دولار يحسدنا عليها منافسون جزائريون وآخرون فرنسيون وعرب، من مصلحتهم أن تُغلق الشركات المصرية أبوابها ويرحل أصحابها وعمالها إلى غير رجعة!.. وجود هؤلاء العقلاء يعزينى إزاء الهستيريا التى تحاصرنا، فضلا عن قناعتى التامة بأن أصحاب حملة الرصاص الإعلامى المسكوب فى مصر والجزائر سيصابون بالسكتة القلمية والميكروفونية عند أول لقاء سيجمع الرئيسين مبارك وبوتفليقة!.. وحتى ذلك الحين الذى أتمنى أن يحل سريعا سأظل أردد: لن أكره الجزائر..بل أكره جميع المتعصبين والمأفونين والمزايدين والمنافقين والدجالين السياسيين والإعلاميين.. الجزائريين والمصريين! [email protected]