«هل تدخر الأقدار للأوطان حكامها بالفعل؟».. مجرد سؤال دار فى ذهنى وأنا أشاهد حواراً قديماً أجراه صديقى الإعلامى اللامع عمرو عبدالحميد مع الرئيس الروسى السابق، رئيس الوزراء الحالى، فلاديمير بوتين عام 2007، كان عمرو مديراً لمكتب قناة الجزيرة فى موسكو فى تلك الفترة قبل أن يعود للقاهرة مسؤولاً عن مكتب قناة BBC العربية حالياً. وكان بوتين فى تلك الفترة يستعد لإنهاء ولايته الثانية والأخيرة.. يرفض وهو «القيصر الجديد» والرجل القوى تعديل الدستور ليبقى فى الحكم «نصحه بذلك حكام عرب»، وقتها، قرر احترام الدستور، وفى الوقت نفسه استكمال مشروعه النهضوى بشراكة مع حليفه، ميدفيديف، الرئيس الحالى. لوهلة، لابد أن تسأل نفسك بينما يدور فى رأسك شريط لذكريات تبدأ من انهيار الاتحاد السوفيتى، أين كان هذا الرجل فى 1991 عند إعلان الانهيار؟ الأرجح أنه كان ضابطاً متوسط الأهمية فى جهاز المخابرات الروسية، وبقى كذلك يتطور وظيفياً فى الحقبة «اليلتسينية» حتى صار رئيساً لهذا الجهاز. عد بذاكرتك لتلك الفترة التى ورث فيها بوريس يلتسين عرش الكريملين، واسأل نفسك: هل كنت تتوقع وقتها لروسيا عودة وقد غرقت فى الديون والفساد والتبعية الكاملة للغرب؟ تذكر حقبة التسعينيات كاملة التى مرت خلالها روسيا بتراجع داخلى عنيف على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وتراجعت نسب النمو ومستويات المعيشة وانتشر الفساد، وصعدت طبقة جديدة من الأثرياء الجدد، مقربة من الرئيس المريض وعائلته، وتمت خصخصة كبرى المؤسسات الصناعية بأقل من قيمتها، وبيعت الصكوك الشعبية فى الشوارع، وتراجعت الخدمات وزادت معدلات الفقر، وتفشى الاحتكار واستثمار النفوذ السياسى، وتضارب المصالح بين العام والخاص، وانعكس كل ذلك على قوة روسيا وعلى وضعها ومكانتها الدولية، وبدت دولة تابعة للولايات المتحدة، عاجزة عن الحركة خارجياً، وقصيرة اليد محلياً.. وفى تلك اللحظة التى تفجرت فيها قضايا انفصالية فى روسيا لجمهوريات إسلامية، وزاد اعتقادك أن بقاء روسيا الفيدرالية كدولة موحدة أصبح مسألة محل شكوك، وربما استعد البعض لرسم خرائط جديدة للبلقان والقوقاز بلا روسيا، كان «الحل البوتينى» يتبلور، ويظهر جنرال المخابرات فى الصورة ويقترب، ويعينه الرئيس المريض رئيساً للوزراء قبل أن يتولى السلطة عام 2000، ويتسلم وطناً مهلهلاً ومديوناً ومتراجعاً وضعيفاً وينخر فيه الفساد من كل جانب. لن أدخل معك فى تفاصيل الصفقة التى عقدها بوتين مع سلفه يلتسين لحماية الأخير وعائلته من الملاحقات، فتلك فرعيات لا يليق الوقوف عندها، وترك ما هو أهم بالضرورة: أولاً وصل بوتين للسلطة بإجراءات دستورية وشرعية واضحة، لم يقل أحد فى روسياالجديدة المتجهة غرباً وتغازلها الشعارات المدنية والليبرالية، إن الجنرالات يعودون، لم تكن القضية فى عودة الجنرالات بقدر ما كانت كيف يعودون، وهو جاء بالدستور والانتخاب المباشر؟ ثانياً: غادر السلطة بهدوء عقب نهاية ولايته الثانية احتراماً للدستور، وما بين أولاً وثانياً كان الأشد أهمية: تسلم وطناً ضائعاً وسلمه لخلفه ميدفيديف وطناً واعداً وقوياً ومهاباً، 8 سنوات فقط قضاها بوتين فى الكريملين، أوقف خلالها التدهور وأعاد بناء إدارة قوية لحكم قوى، تصدى للفساد المالى والسياسى، واستعاد السيطرة على المصادر الاقتصادية القائدة مثل البترول والغاز، ووضع آلية منتظمة لسداد الديون، وبنى اقتصاداً قوياً وناهضاً مكنه من استعادة سريعة لدور بلاده ومكانتها دولياً، دخل فى مواجهات سياسية واستراتيجية وعسكرية مع المخططات الغربية لخنق بلاده، تحرك عبر مشروع وطنى حقيقى ركيزته الاستقلال السياسى والاقتصادى، وهدفه الرئيسى إعادة روسيا إلى المعادلة الدولية كرقم صعب من جديد. انظر إلى روسيا التى تسلمها بوتين، وروسيا التى تسلمها ميدفيديف، قارن الأرقام.. معدلات النمو، الإنتاج، الفائض، ثم انظر إلى الوضع السياسى والاستراتيجى لدولة عرف حاكمها قدرها المستحق فوضعها فى مكانتها اللائقة. 8 سنوات فقط احتاجها بوتين ليصنع كل ذلك، وعندما شعر بأنه بحاجة لمزيد من الوقت لاستكمال مشروع نهضة كبير لم يستنكف عن التراجع خطوة واحدة إلى المقعد الثانى وإفساح المجال لقيادة شابة جديدة، حتى لو كان عبر صفقة لتقاسم السلطة، أو وضع «معكوس» يضمن له الهيمنة والنفوذ، هو لم ينتهك الدستور ليلبى رغباته السياسية، وبنى شرعيته ومازال على مشروع نهضة حقيقى نتائجه واضحة وثماره ملموسة، وأعاد للدولة قوتها وكيانها وهيبتها. لا داعى إذن للقلق.. فالأقدار تختار للأوطان حكامها «وغالباً فى الأوقات المناسبة.. الأكثر صعوبة وحرجاً، وفى اللحظات المفصلية بين اليأس والرجاء».. وهناك أيضاً من الحكام من يختارون لأوطانهم قدرها.. ولكم فى الحل «البوتينى» خير مثال. [email protected]