سعر جرام الفضة اليوم الأحد 8 يونيو ثالث أيام عيد الأضحى 2025    وزير دفاع إسرائيل يأمر الجيش بصد السفينة مادلين    موعد صرف مكافآت الفوز بكأس مصر للاعبي الزمالك    رياضة الأقصر: انطلاق مبادرة "العيد أحلى بمراكز الشباب" احتفالًا بعيد الأضحى    استعدادًا لكأس العالم للأندية.. الهلال يطارد نجم مانشستر سيتي    إقبال كبير على حديقة حيوان الإسكندرية    خلال أيام العيد.. ضبط 1670 كيلو لحوم ودجاج فاسد بالمطاعم في الدقهلية    وسط أجواء مبهجة.. قصور الثقافة تطلق احتفالات عيد الأضحى في شرم الشيخ والطور وأبوزنيمة    متفوقا على "ريستارت".. "المشروع X" يتصدر إيرادات دور العرض السينمائي    الدفاع المدني بغزة: الاحتلال يمنع إنقاذ الأحياء في القطاع    إقبال جماهيري على عروض البيت الفني للمسرح في عيد الأضحى (صور)    جولات ميدانية مكثفة لمديري مستشفيات قصر العيني للاطمئنان على سير العمل ودعم المنظومة الطبية    مصرع طفلين بحادث تصادم مروع بطريق أجا في الدقهلية    وزير الخارجية يبحث مع نظيره التركى تطورات الأوضاع فى غزة وليبيا    لا يُعاني من إصابة عضلية.. أحمد حسن يكشف سبب غياب ياسر إبراهيم عن مران الأهلي    زيزو: "تمنيت اللعب مع أبو تريكة وأتذكر هدفه في كلوب أمريكا"    جولة مفاجئة لرئيس جامعة المنصورة بالمستشفيات والمراكز الطبية    متحف شرم الشيخ يطلق فعاليات نشاط المدرسة الصيفية ويستقبل السائحين في ثالث أيام عيد الأضحى    روسيا: إسقاط 10 مسيرات أوكرانية استهدفت مقاطعة بريانسك    صحة غزة: مستشفيات القطاع ستتحول إلى مقابر خلال 48 ساعة    وزير الزراعة: نستعرض الخطط الاحترازية لحماية الثروة الحيوانية من الأمراض العابرة للحدود    لم تحسم.. حقيقة تعاقد الزمالك مع المدافع الجزائري زين الدين بلعيد (خاص)    ضبط عاطلين بحوزتهما حشيش ب 400 ألف جنيه    مراجعة نهائية متميزة في مادة التاريخ للثانوية العامة    بعد تعدد حدوثها l سرقة سيارة أو توك توك تقود للقتل أحيانًا    تقديم الرعاية ل2096 مواطنًا بقريتي السرارية وجبل الطير البحرية في المنيا    منافذ أمان بالداخلية توفر لحوم عيد الأضحى بأسعار مخفضة.. صور    التأمينات الاجتماعية تواصل صرف معاشات شهر يونيو 2025    العثور على جثة رضيعة داخل كيس أسود في قنا    وزارة العمل تعلن عن فرص عمل بمرتبات تصل إلى 15 ألف جنيه    موعد عودة الوزارات للعمل بعد إجازة عيد الأضحى المبارك 2025. .. اعرف التفاصيل    منافذ أمان تضخ لحوم بأسعار مخفضة في كافة محافظات الجمهورية (صور)    الكنيسة القبطية تحتفل ب"صلاة السجدة" في ختام الخماسين    بين الحياة والموت.. الوضع الصحي لسيناتور كولومبي بعد تعرضه لإطلاق نار    بعد عيد الأضحي 2025.. موعد أول إجازة رسمية مقبلة (تفاصيل)    أمين الفتوى: أكل "لحم الجِمَال" لا يَنْقُض الوضوء    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 996 ألفا و150 فردا    وزارة العمل تعلن عن فرص عمل بمرتبات تصل إلى 15 ألف جنيه .. اعرف التفاصيل    انفجار في العين.. ننشر التقرير الطبي لمدير حماية الأراضي المعتدى عليه خلال حملة بسوهاج    أمين «الأعلى للآثار» يتفقد أعمال الحفائر الأثرية بعدد من المواقع الأثرية بالأقصر    في حديقة حيوان الزقازيق.. إعفاء الأيتام وذوى الهمم من رسوم الدخول    «البدوي»: دعم الرئيس السيسي للعمال حجر الأساس في خروج مصر من قوائم الملاحظات    الصحة: فحص 7 ملايين و909 آلاف طفل ضمن مبادرة الكشف المبكر وعلاج ضعف السمع    مجلة جامعة القاهرة لعلوم الأبحاث التطبيقية «JAR» تحتل المركز السادس عالميًا (تفاصيل)    الدكتور محمد الخشت: 11 شرطا لتحول القادة المتطرفين إلى قيادات مدنية    محافظة الشرقية: إزالة سور ومباني بالطوب الأبيض في مركز الحسينية    مجلة الأبحاث التطبيقية لجامعة القاهرة تتقدم إلى المركز السادس عالميا    رونالدو ينفي اللعب في كأس العالم للأندية    أسعار البيض والفراخ اليوم الأحد 8 يونيو 2025 في أسواق الأقصر    حكم وجود الممرضة مع الطبيب فى عيادة واحدة دون محْرم فى المدينة والقرى    النسوية الإسلامية «خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى» السيدة هاجر.. ومناسك الحج "128"    غزة.. السودان.. ليبيا.. سوريا.. المعاناة مستمرة عيدهم فى الشتات!    أسعار الدولار اليوم الأحد 8 يونيو 2025    المواجهة الأولي بين رونالدو ويامال .. تعرف علي موعد مباراة البرتغال وإسبانيا بنهائي الأمم الأوروبية    من قلب الحرم.. الحجاج يعايدون أحبتهم برسائل من أطهر بقاع الأرض    مسؤولون أمريكيون: واشنطن ترى أن رد موسكو على استهداف المطارات لم يأت بعدا    نشرة أخبار ال«توك شو» من المصري اليوم..استشاري تغذية يحذر من شوي اللحوم في عيد الأضحى.. أحمد موسى: فيديو تقديم زيزو حقق أرباحًا خيالية للأهلى خلال أقل من 24 ساعة    الوقت غير مناسب للاستعجال.. حظ برج الدلو اليوم 8 يونيو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الألتراس.. ليه؟!»: حكاية مشجعو الكرة الذين أبقوا الثورة مستمرة
نشر في المصري اليوم يوم 15 - 10 - 2012


مُفتتح
التاريخ.. ليسَ وقائع تُقرأ على صَفحات صمَّاء، ليسَ إحصاءً لثمانيةِ عشر يوماً أو ملايين المتظاهرين، التاريخ الحقيقي هو ما يَبقى بداخِل الناس، ما يُمكن أن تتذكّره وتتنفسَه وتعيشه، فتراه قريباً وتكاد تَلمسه مهما مرّ من الدَّهر.
والثورة، ليست تِلك الصورة البانورامية لميدان التحرير الممتلئ عن آخره بالمتظاهرين، لأن الثورة الحقيقية كانت في الشوارع الجانبية وعلى الأطراف البعيدة، ما يُمكن أن يُرى من عَرَق ودماء أو لا يُرى من خوفٍ وقلقٍ وضعف.
وبالمثلِ، بُعِثَت الثورة في هذا اليوم البعيد الذي لا يعرف عنه الكثيرون: 19 نوفمبر عام 2011.. 5000 جندياً للأمن المركزي اقتحموا ميدان التحرير الذي يتواجد فيه بضع عشرات من المعتصمين ومُصابي الثورة، ازداد المُصابون والميدان اتَّشَح بسوادِ الملابس بعد أن طُرِدَ منه مالكيه، الأنباء انتشرت سريعاً بين المواقع الاجتماعيّة، واحد ثم عشرة ثم عشرات انضموا، كانوا قلّة ولكن استردوا الميدان بغضبهم، ذَهبت عَين «مالِك مُصطفى» وعَين «أحمد حرارة» فانضم المَزيد وظلُّوا قلّة، يضاعفهم الشعور بالغضب والحَق، قبل أن يقتحم الأمن الميدان من جديد بوحداتٍ إضافية، ويُفرّق ثواره في الشوارع المُحيطة دون أن يُبْقى لهم سوى مشاعر القهر، وعشراتهم الذين تجمعوا بعدها بقليل في «طلعت حرب» لم يكن عددهم يكفي للعودة ، غربت الشمس وبدأ يَغلُب الشعور بالضعف، البعض يرحل والبقية يشتبكون في كرٍّ وفر لن يُغير من الوضع شيئاً، ورويداً رويداً كان اليأس يتسرَّب بينهم، ويشعرون أن عينا «مالك وحرارة» وأجساد المُصابين المُنتهكة وزملائهم الذين قُبض عليهم، كل هذا سيذهب هَدراً مثلِما ذَهَب قبله.
في تِلك اللحظة، تحديداً، اشتغل «شمروخ» في مُنتصف «طلعت حرب» الواصل بين ميدانين، كدلالة على وصول «الألتراس» إلى المكان، وبدا كأنها نُقطة إشارة يتّحد عندها الجَميع، عاد مَن رحل إلى مكانه وازداد العدد والإيمان، ذلك اليقين بالانتصار في تلك المعركة الصغيرة والعودة إلى الميدان مرة أخرى في جولةٍ جديدة للثورة.
كان الأمر أشبة بأفلام «الكوميكس»، حينَ تظهر علامة «باتمان» في السماء، أو تتشابك خيوط «الرجل العنكبوت» على جدران البيوت، فيُرَدّ الأمل إلى قلوبِ الناس.
فَصل التكوين: الألتراس يَبدأ
حين بدأ كل شيء، كان الأمر أبسط مما انتهى بكثير: تجمُّع مجموعة من عمال الخمسينيات الإيطاليين في مدرجات وراء المرمى للهتاف ضد مجالس إدارة أنديتهم التي تتسبب في ارتفاع تذاكر المباريات كان النواة الأولى لتكوين ما سيُسمّى بعد ذلك ب«الألتراس». هُناك في الدّرجة الثالثة من الملعب، حيث الجماهير الأكثر عِشقاً لفرقها، يَعلو الهتاف طوال تسعين دقيقة، مع احتجاجات رافضة دائماً، تبدأ من إدارة النادي وتنتهي عادةً عند الأمن، بذلك الشعار العمّالي الشهير عن أن «كل رجال الشرطة أوغاد».
بعدها بخمسة عقود، حين تكوّنت أول مجموعة «ألتراس» في مصر عام 2007، وتبعتها مَجموعات، كان هُناكَ أساسين فقط بُنِي عليهم كل شيء: أولاً: المحبة غير المشروطة للنادي.. هذا الذي قد يُسْتبدل بالوَطَن ويُخرج من خلاله آلاف الشباب مشاعر الانتماء بداخلهم، وثانياً: الكراهية غير المحدودة لرجال الشرطة.. في أكثر عصور الداخلية فساداً وعبثاً بآدمية الناس ورغبتها في السيطرة على أي تجمُّع، وعدم فهمها في المقابل أن شباباً في طَور التكوين لن يرضخوا للواقع بسهولة، سيميلون حَتماً نَحو الحُلم.
البديل الأمني كان مُحاولة كَسرهم على مدارِ أربع سنوات، تشويه صورتهم في الإعلام، القبض على الكثيرين منهم من بيوتهم، منع دخول أدوات التشجيع إلى المباريات، التفتيش المهين في كل مرة بالإستاد، ومَنع رفع «بانر» المجموعة الذي هو -تماماً كتقاليد المحاربين القدامى مثلاً- يُعبر عن شرفها.
25 يناير 2011 كان لَحظة مثالية لاجتماعِ تِلك المَحبة والكراهية في نُقطةٍ واحدة، شعور الانتماء الذي يُوجّه للمرة الأولى اتجاه الوَطَن، وشعور الكراهية في حدثٍ تاريخي سيقترن بعد ذلك -وقبل كل شيء- بالغضب.
لم يكُن هُناكَ وعياً سياسياً عند أفراد المجموعات في ذلك الوقت، فقط الإيمان بمبادئ مُطلقة ك«الحرية» أو «العدل» أو «الحق»، لذلك فإن مجموعتي «ألتراس أهلاوي» و«ألتراس وايت نايتس» أعلنتا في ليلتي «23 يناير و24 يناير» أنهم لن يتواجدوا بشكل رسمي في «تظاهرات 25 يناير»، وأن المجموعة لن تدعوا أفرادها -الذين لا يتعدى سن بعضهم 15 عاماً- إلى المشاركة في حدثٍ غائم، ولكن في المُقابل كان هُناكَ التأكيد على حرية أي فرد في التواجد كموقفٍ ذاتي ومُستقل.
القرارات في هذا الوقت كانت تؤخذ بالفِطرة، دون اتفاق، لذلك فإن أفراد المجموعة قابلوا كافة أصدقائهم في الميدان ظَهيرة ذلك اليوم، وبالفِطرة أيضاً ذهبوا للاشتباك مع الأمن على أطرافه، قبل أن يعودوا إلى المُنتصف ويُشعلوا «أول شَمروخ ثوري» على هِتاف الشعب الذي يُريد، بمشاعر حماسية مُختلفة تجعل تِلك الليلة الشتوية أكثر دفءً، لم يكن أحد يعرف ماذا يحدث تحديداً، ولكن الجميع كانوا يشعرون أنه أمراً كبيراً.
صورة آلاف الساجدين والمشتبكين فوق كوبري قصر النيل بعدها بثلاثة أيام أعطِت لهذا «الحدث الكبير» اسماً، هو «ثورة» ولا شيء أقل من ذلك. المصريون عَرفوا حينها الوقوف أمام المُدرَّعات وتحدّي الرَّصاص ومؤانسة الخوف واستغلال الخَل والبَصل والمياة الغازية في استخداماتٍ جديدة، والألتراس كانوا جزءً أساسياً من كل هذا، ويعرفون كغيرهم -للمرة الأولى أيضاً- انتماءً يتجاوز انتماءهم للنادي وللكرة، ذلك الانتماء للوَطَن الذي سيقبلون الموت طَوعاً من أجله.
اشتباكات شارع محمد محمود في ليلة الثورة الأولى، تأمين أطراف الميدان باللّجانِ الشعبية، المشاركة في جلب احتياجات التحرير للإعاشة، هذا «التنظيم» الفائق كخلية نَحل لا تهدأ جعل كل السنوات السابقة من الصراع مع الأمن وترتيبات مبارة على الأقل في كل أسبوع تبدو وكأنها تَدريب طويل لتلك الثورة، وهو الأمر نفسه الذي تجلَّى في نهارِ وليلة «موقعة الجَمل»، أن تُعدّد المَداخل وتُقسم أعدادَك عليها، أن تَشعر بالخوف فتتقدّم أكثر للإمام مُحتمياً –فقط- بأكتافِ الأصدقاء، أن تَعرف الموت أقرب إلى نَفسك من التخلّي عن تلك البُقعة من الأرض، أن تكون تلك المعركة الصغيرة هي الحياة كلها، وأن تَسمع مصطلحات استراتيجية كلاسيكية لمجموعات «قارعي الطبول» و«كاسري الحِجارة» و«الرُّماة» و«المُحَمّسين» تُخلق الآن فقط كي تَسمح لمدنيين عُزَل الدّفاع عن «أرضِهِم»، ذَلِك الميدان الذي عَنَى الوَطَن، والإنتصار فيه هو انتصار للروحِ ذاتها.
والألتراس لم يكونوا وحدهم، ولكنهم كانوا دوماً في المُقدّمة، حتى وُحْشَة القاهرة الممتلئة بالقناصة في تلك الليلة كانت أكثر أُنْساً مع قنابل المولتوف وابتسامات الأقرباء المألوفة بالجوار.
وفي كل هذا لم تكن الثورة فقط حدثاً سياسياً يَهدف إلى إسقاط نظام، ولكنها كانت –بالقدرِ نفسه- حَدثاً اجتماعياً وإنسانياً يُطور في وَعي ووجدان النّاس، لذلك فبعد ثمانية أيام من «موقعة الجمل» أعلَن «ألتراس وايت نايتس» التواجد بشكل رسمي ضمن مسيرة إلى ميدان التحرير في جمعة 11 فبراير، واصفاً نفسه باعتباره «كياناً من قلب هذا الشعب».
وفي مَساء يوم تلك المَسيرة تَحَقَّق المَطلب الأهم للثورة، اشتعلت الشّماريخ من جديد وامتلأت سماء التحرير بالألعاب النّارية، وظن الألتراس أن إسقاط رأس النظام يُنهي علاقتهم بالسياسة ويُعيدهم إلى مُدرَّجات الكرة، ولكنه كان في الحقيقة يبدأها.
فصل الخروج: فرسان الظلام
كان من الممكن إيجاد مُقابل مادي لكلمة «الحرية» في تحوُّل جدران المَدينة الصفراء إلى حوائط مُلوَّنة في تِلك الأشهر القليلة التي تَلَت 11 فبراير.
جُدران «ميت عُقبة»، صور حِلمي زامورا وحسن شحاتة وحازم إمام، شِعار النادي والمَجموعة، التأكيد على الوفاء والبقاء في المؤازرة إلى الأبد.
وبالمَقربة، على بُعد 3 كيلو فَقط، سيكون هُناك في الجزيرة صوراً مماثلة لصالح سليم ومحمود الخطيب ومحمد أبو تريكة، والكثير من الفخر بالنّسر والنادي والتاريخ الذي لَم يَنقطع.
وفي كُل هذا، كانت هناك «الثورة»، مَلامح الشُّهداء وأسماءهم، لَحظات الانتصار الصَّريحة على «الأوغاد» -كما سُمُّوا تِلك ال«نا» التي اقترنت بالمَدينة للمرة الأولى، فأصبحت «مدينتنا»، بكل ما يحمله الأمر من ملكية، كأنّ كل الشوارع قد صارت بيوتاً.
والفُرسان كانوا بيضاً، يَرسمون في وَضح النهار، ويَرَوْن كُل الأحلام قَريبة في تِلك الأيام، حتى الاستمتاع بمباريات الكرة، والتنافس الذي وَصَل إلى حَدِّه الأعلى منذ سنوات بين فريقي العاصمة، كانت الحياة ممتلئة بصخبها، وللمرة الأولى خلال خمس سنوات يَشعر الفتية بقوتهم في مُواجهة الأمن والدّاخلية، يَدخلون الإستادات برؤوسٍ مَرفوعة، لا أحد يُمكن أن يَمنع أدوات التّشجيع، لا أحد يُمكن أن يقف في وَجه الثورة، ولا مانع من التّذكير بين الحينِ والآخر بالغربانِ المُعَشّشة، وبالتحرير الذي لَم يُنْسَ.
كانت كل مباراة حينها احتفالاً بال«حرية»، التطور المَلحوظ في مُستوى وقيمة وأفكار «الدخلات» كان له علاقة أساسية بالمَناخ الذي يعيش فيه الألتراس خلال تلك الفترة، وهو ما استفز الأمن ليبدأ مضايقات جديدة ضد المجموعة في المباريات، والرّد كان مُعَبّراً: صورة «خالد سعيد» التي رُسِمت على جدران وزراة الداخلية في ذكرى استشهاده الأولى اختصرت كل مشاعر الغضب والقوة والفخر التي يحملها هؤلاء للفتية.
ليبدو في ذلك الوقت أن «الألتراس» على رأس قائمة ثورية يجب إخضاعها أو «الثأر» منها، والخضوع لم يَكُن سهلاً، فلا مَصلحة سياسية لهؤلاء، لا مَنصب يَسعون إليه، ولا هَدَف إلا مبادئ مُفرطة في رومانسيتها، ذات المبادئ التي تُهدّد وجود الكثيرين، لذلك فالثأر كان خياراً: عَساكر الأمن المركزي وهم يَجرون وراء «ألتراس أهلاوي» في مباراة فريقهم مع «كيما أسوان» كانوا يحملون الكثير من الكراهية والرغبة في الإذلال، العنف اللفظي والبدني، تكسير الأجساد والقبض على المتبقي منها، كانت رسالة تَحذير واضحة بأن ما هو أكبر من ذلك يمكن أيضاً أن يَحدث.
وكانت لحظة فاصِلة، الثورة التي بدأت بالكثير من الأحلام بدت في مرحلة شديدة الضبابية بشأن المُستقبل، وبدا الواقع أسوأ كثيراً مما تَمَنَّاه الحالمين، والفرسان البيض.. الذي كان مَبلغ الأمر بالنسبة لهم هو تَلوين الجُدران وتَشجيع فِرقهم في مناخٍ يَسمح بالحَياة، كان عَليهم أن يَتحوّلوا -رويداً رويداً- إلى فرسانِ ظَلام في مَعركة فُرِضَت عليهم، ثأر قَديم لا يُحَل بالأغاني والهتافات والرسوم كما كانوا يَفعلون، بل بصراعٍ على البقاء كما افترض عَدوّهم.
خلال البقية الباقية من هذا العام، جَرت العديد من الأحداث الكُبرى، وصارت بعض الكلمات تحمل بداخل سامعيها معاني أعمق كثيراً من كونها أماكن جغرافية، الثورة كانت مُترنّحة، والضباب يَزداد كلما مَر الوقت، و«الألتراس» كانوا دَوماً بالجوار، فُرسان ظَلام، يُبقون بداخل الناس ما يستحقونه من أمل، ليظلّ كُل شيء مُستمراً.
فصل البلاد التي تكبر والفتية الذين يكبرون معها: صعود فرسان الظلام
في أسطورةٍ يونانية عَن الحرب، يَكون أعظم المُحاربين هم هؤلاء الذي واجهوا المَوت قبلاً، شاهدوه كرأى العَين وفَرُّوا منه قبل أن يَمسهم، لذلك فإنهم يكونون أشجع وأكثر بأساً، لأن المَوت سيتجنَّبهم في الحروب التالية تبعاً لتفسير الميثولوجيا.
في إستاد بورسعيد، كان المَوت على بُعد 200 مِتر، يُهَرْوِل وهو آتٍ، وتَبدو مَلامحه واضحة كلما اقترب، إنه المَوت حَتماً ولا شيء غَيره، صحيح أنهم رؤوا خَياله من بعيد خلال أشهر قبلها، وتلمسوا أثره في جسدي شهاب «شهيد الوايت نايتس برصاص الداخلية في شارع محمد محمود» ومحمد مصطفى «شهيد ألتراس أهلاوي برصاص الجَيش في أحداث مجلس الوزراء»، إلا أن ذلك لم يَكن يُقارن بجرأة الموت ووضوح نيّته في بورسعيد، حين أتى خصيصاً من أجلِهم، وقَطَع المسافة بين المَدرجين جَرياً، ولشدّة نذالته في تِلك المرّة فإنه لم يَكْتَفِ بأخذِ الأرواح بقتلٍ صريح، ولكنه اختبأ بعد ذلك في نهاية مَمَر مُظلم ومُغلَق ليُسْقِط الأغلبية بالاختناق أو الدَّهْس، ويَنظر بشكل مُتَبَجّح في أعين من بَقوا أحياء كي لا ينسوا تِلك اللّحظة.
لَيس الأمر بحاجة إلى ميثولوجيا لتفسير أن رؤية 74 من الأصدقاء ورفقة السنين وهم يَصعدون يُميت القَلب والخَوف، ويجعل المرء أكثر تصميماً على المطالب التي ذَهبوا لأجلها، كثيرون فَسَّروا ما حدث بأن هتاف ألتراس أهلاوي الصريح في مباراة المقاولين يوم 28 يناير 2012 -قبل المذبحة بثلاثة أيام- ضد حُكم العَسكر هو ما أدى لرغبة في عقابهم، وما تغيَّر فيهم بعد كل هذا أن صَوت الهِتاف صار أعلى وأوضح ومن المستحيل التراجع عنه، لأنه لم يعد تضامناً مع مطالب شعبية هم جزء منها أو تعبيراً عن الانتماء لوطنٍ وتحريره من فساده، صار الأمر بعد بورسعيد ثأراً شخصياً عند كل منهم، ثاراً للوجوه التي ذَهبت والذكريات التي لَطَّختها الدّماء.
لذلك فإن كل شيء بداخلهم قد تغيَّر، مَحَبة النادي أمْسَت كراهية للقَتَلة، تَنظيم الذهاب للمباريات استبدل بزيارات لبيوت الشهداء، رسم الحوائط الذي كان لشعار المجموعة أصبح لوجوه الأصدقاء الراحلين، حتى هتافهم الذي كَان «يوم ما أبطَّل أشجَّع هَكُون مَيّت أكيد»، قَد صارَ تَرنيمة حَزينة يُرددها الجَميع بصوتٍ خفيض: «أخويا مَات شَهِيد / مِ الغدر في بورسعيد / ويوم ما أفرَّط في حَقُّه / هَكُون مَيّت أكيد».
وعلى الرغم من أن آلاف من أعضاء «ألتراس أهلاوي» كانت امتحاناتهم على مَقربة حين أعلنت المَجموعة عن اعتصامها المَفتوح أمام مجلس الوزراء في مارس/أبريل الماضي، إلا أنهم ذَهبوا إلى هُناك بكتبهم الدراسية، الأقلام والوَرَق وملازم المُحاضرات، يَمُر الوقت بين الخِيَم في المُذاكرة، وبمُعَدّل ثلاث مرّات يومياً يجتمعوا جميعاً في شارع المَجلس، كَجيلٍ عَصي على الكَسر وأكتافٍ لا تُباح بعضها، ويملأ صدى صوتهم وَسَط المدينة بالكامِل «آه يا مجلس يا ابن الحرام/بعت دَم شهيد بكام»، قبل أن يعاودوا المذاكرة من جديد.
ونَجح الاعتصام في تحقيق أغلب مطالبه، وعلى رأسها اعتبار مشجعو الكرة من شهداء الثورة، وتخصيص دائرة لمحاكمة المتورّطين في جريمة بورسعيد، وأعلنت المجموعة حينها أن هذا لا يعني نهاية كل شيء ولكن الخطوة الأولى نَحو المَطلب الأكبر وهو «القصاص».
ولأن «آفة حارتنا النسيان» فإن مرور الأيام في رتابة كان قادراً على أن يُنسي الناس الكثير، حتى الثورة ذاتها وحق شهداءها، الألتراس فقط هم من لم ينسوا، صار ضَجِيجهم بين كل حين وآخر هو الدليل الوحيد على أن «الثورة مُستمرة»، وأن الحديث عن دماء الشهداء أو تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين أو عدم سَير الحياة على طبيعتها دونَ تحقيق القصاص.. ليست من دروبِ الخيال أو الأحلام المستحيلة، فهي حقوق مُعلّق بها دماء الآلاف.
وبالمثِل، كانت المَعركة الأخيرة الخاصة ب«مباراة السوبر» تجسيداً واضحاً للصراعِ، بين فئة ترى أن الحياة يَجب أن تَسير للأمام، تُلْعَب الكرة ويَفرح الناس، وفئة أخرى مؤمنة بأن ما حدث كان جَلياً وكبيراً ولا يُمكن أن تستمر الحياة بعده إلا بإعادة الحقوق لأصحابها وتحقيق إصلاحات تضمن ألا يتكرر الكابوس ثانية، لا يُمكن أن تُلعب الكرة ودماء مشجعيها لازالت موجودة على كراسي المُدرّجات، وليس من المنطقي أن يخضع النشاط الرياضي لنفس القواعد التي أدت للمذبحة.
السفر من القاهرة للإسكندرية، السير 20 كيلو في الصحراء للوصول إلى فُندق اللاعبين، تقبل احتمالية الغدر وصعود شهداء جدد، فلا يُحزنهم الفزع الأكبر، ويبقون أمام الفندق بين عَصر وعِشَاء، وعلى الرغم من أن المباراة قد لُعِبَت في النهاية إلا أن دولة كاملة قد توقَّفت لساعاتٍ، وتذكر الجميع أن هناكَ 74 شهيداً لم يَفُت على رحيلهم أكثر من سَبعة أشهر، لازالت دماءهم حَيّة بداخِل أصحابهم، وأنهم لا يَنسون مهما مَرّ من الدَّهر.
ومع البيان الأول لجروب «ألتراس أهلاوي» بعد مباراة السوبر، المُطالب باستقالة مجلس إدارة النادي وتخليد الشهداء وعدم استئناف النشاط الكروي في وضع لم يتغير عما كان عليه منذ سبعة أشهر، بدا واضحاً أن ثورتهم ستستمر، تحديداً حين خُتِم بأن «حق الأصدقاء ليس فقط في قصاص محكمة، ولكن في تغيير كل شيء فاسد كانوا يعانوا منه».
خاتِمَة
في السادسة والنّصف مساءً، عادَ الثوار إلى الميدان في نُوفمبر البعيد هذا، كان اليوم الأول في الأحداث التي سُمّيَت بعد ذلك ب«محمد محمود»، وفي يومها الرَّابع.. خرج الحاكم العَسكري يُعلن عن جدول زمني لتسليم السُّلطة في أواخر يونيو 2012، ليُخَيّم الإحباط على الوجوه والأرواح.
وما لم يَعرفوه حينها أن سبعة أشهر بالفعل تفصل بينهم وبين تسليم السُّلطة إلى أول رئيس مَدني في تاريخ الجمهورية، وشهر ونصف آخر سيُحال بعده رئيسي القوات المُسلّحة والأركان إلى التقاعد، ويَسْقط حُكم العَسكر كما هَتَف كل الشهداء على مدار شهور.
ما لم يعرفوه أن شمروخاً رُدّ به الأمل إلى القلوب، وآلاف الحجارة التي أُلقيت على مدار أيام، وفِتْيَة صغار عَرفوا الحق وقرروا ألا يحيدوا عَنه، هؤلاء فَقط من أبقوا الثورة مُستمرة، لا يَزالوا، ولا تَزَال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.