يُحكى أن رجلا أدهشه غموض الكون، وصمم على الحصول على إجابات. سأل الصباح فابتسم الصباح وقال: لا وقت عندى للأسئلة، أنا مشغول بالحياة. سأل المساء فبكى المساء وقال: لا وقت عندى للأسئلة، أنا مشغول بالحزن. سأل الزهور والطيور والحدائق والفراش. قالت الزهور: الألوان، وقالت الطيور: السحب، وقالت الحدائق: العشاق، وقال الفراش: الضياء. قال للجبل: أنت كبير جدا ولا شك أنك تعرف الإجابات، وقال للنمل: أنت صغير جدا وتعرف مخابئ الأشياء. قاده الصمت إلى الدهشة، وقادته الدهشة إلى التأمل، وعند شاطئ البحر شاهد الموج يدوّن الإجابات. ويحكى أنه وقف مأخوذا يرمق البحر الواسع والأمواج المتتابعة، وراح يقرأ الإجابات تحت ضوء القمر. استدرجه الموج، فراح يخوض فى البحر، ممعنا فى المكاشفات الروحية والمعارف القلبية، لا يشعر بجوع ولا ظمأ، ولا ملل ولا نصب، ولا برد ولا حر. ويحكى أنه شاهد على مرمى البصر جزيرة خضراء تشهق بالهدوء والسلام. صغيرة لا يسكنها بشر، ويحوطها الأزرق من جميع الجهات. راح يسبح مسرعا حتى يصل إلى شاطئ النجاة. ................ ويحكى أنه منذ ذلك الحين يعيش فى عزلة اختيارية، لا تؤنسه إلا أشباحه القديمة وذكرياته الماضية، منشغلا بالذكريات عن ممارسة الحياة. فى العام الأول اعتاد التحديق فى السفن العابرة، فى العام الخامس أوغل فى البكاء. فى العام العاشر دوّن أحزانه على رمال الجزيرة فبددتها الرياح العاصفة. فى العام العشرين، مع انتشار الشعر الأبيض، بدأ يكتب رسائله ويُودعها الزجاجات القديمة ويعهد بها إلى الأمواج. ........................ ماذا كتب العاشق للبحر، لا أحد يدرى إلا البحر والزجاجات. ...................... ويحكى أن البحر- أخيرا- اعتنى بالزجاجات، يحملها موج إلى موج فى طريقها إلى الشطآن. تطبع المطبعة آلاف النسخ، تأخذ طريقها إلى باعة الصحف، تتقاذفها الأيدى العجولة، أمواج تسلمها إلى أمواج، لمن تصادف وجودهم على شاطئ الحياة: رجال لا أعرف سنهم، نساء لا أدرى شكلهن. عجوز له صلعة أبى، امرأة تشبه أمى، رجل فى سنى، بنت تضحك للصباح وتغنى، فتاة تتساءل عن حظها فى الحياة. طفل يتعثر فى دهشته، عابد، عاشق، ساخط، ملول، غضبان، فرحان. أنت وحظك أيها الكاتب، يقرؤك، يُهملك، يلقيك، يمزقك، يمسح بكتاباتك زجاج النافذة، يلف بك رغيف خبز مغموس فى حنان الأمهات. ............. الكتابة أن تعيش فى قصص الحب، وتنساب فى دموع المحزونين، وتقبل جبين كل عاشق، وتعانق كل قلب، وتشاهد أحلام العذارى فى غفلة من الحنين. الكتابة أن تجوب العالم وتركض خلف فراشة السنين، وتغير الواقع إلى الأحسن، تعيش حياة أعرض، وتستعصى على الموت. الكتابة أن تراقص الحروف، وتذوب فى المعانى، وترقد فوق السطور، وتُفرخ القصائد، وتستعيض عن حياتك التى لم تعشها بكلمات تعانق كلمات. وقتها فقط ربما تدرك سرك. تفهم أن حياتك هى الكتابة، والكتابة هى الحياة.