عاد «ياسر» من المدرسة، فوجد «الجمل ظريف» ينظرُ فى أحد كتبه المصورة الملونة، وبعد قليل جاء «الديك حسن» ثم جاءت أخته «نور»، فسألها: «ماذا فعلت اليوم فى المدرسة؟». قالت: «كان يوما جميلا، فقد رسمت عدة رسومات، أعجب بها المدرس». «ماذا رسمت؟». «رسمت بعض الرسومات عن علاقة الجزء بالكل، ثم عن علاقة الأشياء الصغيرة بالأشياء الكبيرة». صاح أخوهما «نديم»: «أرجوكم أن تتوقفوا، فهذا كلام غريب، لم نسمع مثله من قبل!». فتشجع ظريف، وقال: «نديم على حق! هل يمكن أن توضحوا لى ماذا تقصدون؟!». ضحكت نور وقالت: «المسألة سهلة جدا، أسهل مما تتصورون، سأشرحها لكم. هل تعرفون البرتقالة؟». ضحك ظريف وقال: «طبعا، هذا سؤال غريب، من منا لا يعرف البرتقالة؟». قالت نور: «حسنا جدا يا ظريف، بعد أن تقشروا البرتقالة تجدونها مكونة من فصوص، أليس كذلك؟». قال الجميع فى صوت واحد: «نعم» ثم ضحكوا. قالت نور: «الفصوص هى الأجزاء، والبرتقالة هى الكل». ابتسم نديم وقال: «هذه مسألة سهلة جدا، هل توجد أمثلة أخرى؟». قالت نور: «هناك أمثلة كثيرة، انظر حولك، على سبيل المثال: حين تدخل غرفة المائدة ستجد عدة كراسى ومائدة ونجفة وحوائط وسقف وأشياء أخرى، فهل تقول: سأدخل للكراسى والمائدة والنجفة وللحوائط وللسقف والأشياء الأخرى؟ أم تقول: سأدخل غرفة المائدة؟». قال الأطفال: «غرفة المائدة بطبيعة الحال». قالت نور: «الكراسى والمائدة والنجفة والأشياء الأخرى هى الأجزاء، وغرفة المائدة هى الكل». ثم قالت نور: «هل ترون هذه السيارة فى الشارع؟». أطلّ الأطفال من الشرفة، وقالوا: «نعم»، قالت نور: «حسنا، هى مكونة كما تعلمون من أجزاء كثيرة: العجلات الأربعة والموتور والأبواب وعجلة القيادة والكراسى والمساحات.. إلخ، كل هذه أجزاء السيارة، أليس كذلك؟». قال نديم: «نعم». فقالت نور: «حينما ننظر إليها هل نقول: هذه هى العجلات الأربعة والموتور والأبواب وعجلة القيادة والكراسى والمساحات.. إلخ، أن نقول: هذه سيارة؟». قال الجميع: «نقول: السيارة، بطبيعة الحال». فقالت نور: «حسنا، إذن أنتم تعرفون أن العجلات والموتور وعجلة القيادة هى الأجزاء، أما السيارة فهى الكل. هذه أمثلة بسيطة ترونها فى كل مكان». قال نديم: «لقد فهمنا علاقة الأجزاء بالكل، ولكنك ذكرت شيئا عن علاقة الأشياء الصغيرة بالأشياء الكبيرة». ابتسمت نور وقالت: «هذه أيضا فكرة بسيطة. أنت يا نديم على سبيل المثال. صغير ولكنك ستكبر لتصبح رجلا، أليس كذلك؟». قال نديم: «نعم»، فقالت نور: «هذه هى علاقة الأشياء الصغيرة بالأشياء الكبيرة. وقد رسمت بعض الصور لأبيّن كيف تنمو الأشياء الصغيرة لتُصبح كبيرة». قالت نور: «البذرة تصبح شجرة صغيرة، والشجرة الصغيرة تصبح شجرة كبيرة، أما البيضة فيخرج منها الكتكوت ليصبح دجاجة كبيرة، أليس كذلك؟ والطفل الرضيع يكبر ليصبح شابا، والشاب يصبح أبا، والأب يصبح جدا، هكذا تنمو الأشياء الصغيرة لتصبح كبيرة». قال ياسر: «لقد فهمنا الآن علاقة الأجزاء بالكل، وكيف تنمو الأشياء الصغيرة لتصبح كبيرة. وأتذكر الآن أغنية «زرعنا جزرة» وهى أغنية شعبية فلسطينية، كنت أغنيها مع أصدقائى الفلسطينيين، تشرح نفس الفكرة». قال الجميع: «نحن نتذكر الأغنية، هيا نغنيها سويا». زرعنا جزرة فى قلب البستان رواها أبى عاشت فى أمان كبرت فى حجمها عظمت فى جذعها جاء ليقلعها لم يقدر لها. فرأته أمى جاءت فى عجل أمسكته فى نشاط من غير كسل أمى أمسكت أبى أبى أمسك الجزرة شدوا شدوا لم يقلعها فرآهم أخى جاء فى عجل أمسكهم فى نشاط من غير وجل أخى أمسك أمى أمى أمسكت أبى أبى أمسك الجزرة شدوا شدوا لم يقلعها فرأتهم أختى فرآهم كلبى فرآهم قطى فرآهم فأرى جاء فى عجل أمسكهم فى نشاط من غير وجل فأرى أمسك قطى قطى أمسك كلبى كلبى أمسك أختى أختى أمسكت أخى أخى أمسك أمى أمى أمسكت أبى أبى أمسك الجزرة شدوا شدوا فقلعها صفق الجميع فرحين عندما انتهوا من الغناء. قال نديم: «فهمت الآن هذه الأغنية الجميلة. الكبير والصغير أسرة واحدة. ورغم أن الكبار أقوياء وقوتهم ضرورية، إلا أنها ليست كافية، لابد أن يتعاون كل أعضاء الأسرة». قال ظريف: «نحن نعرف ما الأغنية، ولكن ما هى القصيدة الشعرية؟». ردت نور: «القصيدة مكونة من عدة أبيات شعرية، والبيت الشعرى هو كلام موزون له إيقاع موسيقى. استمعوا لهذا البيت: «زرعنا جزرة/ فى قلب البستان»، أليس له إيقاع موسيقى جميل؟ واستمعوا الآن لنفس الكلمات ولكن بطريقة أخرى: «زرعنا فى قلب البستان جزرة». إن قلنا نفس الكلمات بهذه الطريقة فإنها تصبح نثرا، أى: كلام غير موزون وغير موسيقى، إن القصيدة الشعرية تنساب مثل الموسيقى وكأنها نهر صغير وجميل. ولكن هناك قصائد ليست موزونة. وعادة ما تكون فى القصيدة صور خيالية. فإحدى القصائد الإنجليزية تبدأ بالبيت التالى: «عندما كنت فراشة/ تحدث القمر معى». صاح كل الأطفال: «فهمنا الآن ما هى القصيدة!». قالت نور: «قرأت قصيدة شعرية تسمى «مفتاح المملكة»، وهى ليست موزونة لأنها مترجمة بتصرف عن الإنجليزية» عنوانها: This is the Key to the Kingdom هذا هو مفتاح المملكة، فى المملكة مدينة كبيرة، فى المدينة الكبيرة حى صغير، فى الحى الصغير شارع واسع، فى الشارع الواسع حارة متعرجة، فى الحارة المتعرجة ساحة خضراء، فى الساحة الخضراء منزل، فى المنزل حجرة، فى الحجرة سرير خال، وعلى السرير الخالى سلة سلة من الأزهار الجميلة، من الأزهار، من الأزهار، سلة من الأزهار الجميلة. أزهار جميلة فى سلة، سلة على السرير الخالى، سرير خال فى الحجرة، حجرة فى المنزل، منزل فى الساحة الخضراء، ساحة خضراء فى الحارة المتعرجة، حارة متعرجة فى الشارع الواسع، شارع واسع فى الحى الصغير، حى صغير فى المدينة الكبيرة، مدينة كبيرة فى المملكة. هذا هو مفتاح المملكة. المملكة، المملكة، هذا هو مفتاح المملكة. بعد أن انتهت نور من قراءة القصيدة، قالت: «هل أعجبتكم؟!»، فهز الجميع رءوسهم علامة على الموافقة. فقال نديم: «القصيدة تؤكد أن الصغير «مفتاح المملكة» هو المركز. ولكنى لاحظت أن الأغنية تشبه القصيدة! هل كل الأغانى قصائد، وكل القصائد أغان؟». ابتسمت نور وقالت: «أنت قوى الملاحظة يا نديم، الأغنية فى واقع الأمر قصيدة وضعوا لها موسيقى ويغنيها مطرب، أما القصيدة فهى موجودة فى كتاب يسمى: «ديوان». «أما الآن فقد جاء دور القصة. هل تعرفون ما القصة؟»، قالوا: «نعم.. هى الحكاية، أليس كذلك؟». قالت نور: «إذن سأقص عليكم قصة فرنسية «من تأليف أنا تول فرانس» جميلة كنت قد قرأتها وأعجبتنى، وهى أيضا عن علاقة الأشياء الكبيرة بالأشياء الصغيرة، وعلاقة الأجزاء بالكل. وأنا لم أترجمها وحسب وإنما ترجمتها وعدلت فيها». كان ياما كان، فى سالف العصر والأوان، يحكى أن ملكا حكيما عجوزا كان يعيش فى مملكة صغيرة جميلة، يحكم بين الناس بالعدل، وكان ابنه الأمير الشاب يحب الناس والحياة والشمس والأشجار. يسير فى الحقول. ويبتسم، ويقرأ الكتب والأشعار، ويسمع الموسيقى والغناء. وفى مساء يوم مطير مات الملك العجوز، فبكاه ابنه وجلس وحيدا فى حجرته، وقد غمر الحزن قلبه. ولكنه بعد حين فكر فى الناس وفى أمور المملكة، فجفف دموعه، ثم سار فى القاعة الفسيحة، وجلس على الكرسى الجميل الذى يسمى «العرش»، ولبس التاج فوق رأسه، وهكذا أصبح الأمير ملكا. كان الملك الشاب يحب الكتب والقراءة، فدعا كل علماء المملكة وحكمائها لحفل كبير فى القاعة الفسيحة. فأكلوا وشربوا وسمعوا الموسيقى والغناء، ثم ألقى الملك كلمة قال فيها: «يا علمائى وحكمائى الأعزاء، يا من تنفقون ساعات العمر تدرسون أسرار الكون وحكمة الأجداد والأجيال، أريد منكم أن تكتبوا لى كتابا تضعون فيه كل أسرار الحكمة، ويضم كل صنوف المعرفة، أقرؤه فأصبح الملك الحكيم الذى تتحدث عنه كتب الفكر والفلسفة». فرح العلماء والحكماء وهلل كل الناس، وغردت الطيور فى السماء فى ذلك اليوم أكثر من ذى قبل، وأرسلت الشمس أشعتها الذهبية إعجابا بالملك الشاب، والفراشات كانت تهز أجنحتها فى فرح غير عادى، وذهب الناس إلى منازلهم فرحين مبتهجين. واجتمع كل العلماء، ووزعوا العمل بينهم، فمنهم فريق كتب عن التاريخ، وآخر كتب عن الجغرافيا، وثالث كتب عن الكيمياء، ورابع عن النجوم والقمر (علم الفلك)، وخامس عن فنون الشعوب. وظلوا يعملون ليلا ونهارا لمدة عشرة أعوام. وبزغت الشمس وغربت، ثم بزغت وغربت، ثم بزغت وغربت، والهلال أصبح بدرا ثم هلالا ثم بدرا، والأوراق الخضراء اللامعة كست الأشجار ثم سقطت، ثم كستها ثم سقطت عشر مرات، وهم جالسون يقرءون ويفكرون ويكتبون الصفحات والصفحات، حتى كتبوا عشرين مجلدا تحتوى أسرار الحكمة والعلم والمعرفة، كتاب ضخم جدا يقف على المائدة كالعجوز الحكيم الذى يعرف إجابة معظم الأسئلة، وسموه: «الجامع فى العلوم والفنون». حمل العلماء والحكماء كتابهم الضخم إلى الملك الشاب ليقدموه له. فساروا فى القاعة الفسيحة ووجدوه جالسا على العرش، وبجواره صبى يافع هو ابنه الأمير الصغير. وأقام الملك حفلا كبيرا وقال: «يا علمائى وحكمائى الأعزاء، أشكركم شكرا جزيلا على هذا الكتاب الضخم العظيم الذى سيفيد كل الناس، ولكننى بعد عشرة أعوام لم أعد مثلما كنت شابا، فأنا الآن ملك كبير مشغول بأمور المملكة. ولهذا أرجو أن تلخصوا هذا الكتاب الضخم العظيم حتى يمكننى أن أقرأ». حزن العلماء والحكماء قليلا، ولكنهم كانوا يحبون الملك والعلم والحكمة، ولهذا وافقوا على أن يلخصوا له كتابهم الضخم. عند هذا هلل بعض الواقفين، ولزم الآخرون الصمت، وغردت الطيور فى السماء كما تغرد كل يوم، وأرسلت الشمس أشعتها الذهبية، وطارت الفراشات،وذهب الناس إلى منازلهم. اجتمع كل العلماء والحكماء فى الصباح التالى، ووزعوا العمل بينهم، وظلوا يعملون لمدة خمسة أعوام. وبزغت الشمس وغربت، ثم بزغت وغربت، والهلال أصبح بدرا ثم هلالا ثم بدرا، وأورقت الأشجار ثم تساقطت أوراقها خمس مرات، وهم يقرءون ويلخصون ويكتبون الصفحات والصفحات، حتى كتبوا مجلدين اثنين يحتويان أسرار الحكمة والعلم والمعرفة، كتاب يقف على المائدة كشاب ينظر إلى النجوم، وسموه: «ملخص العلوم والفنون». حمل اثنان من العلماء والحكماء المجلدين ليقدماهما إلى الملك، وسار وراءهما بقية العلماء والحكماء فى القاعة الفسيحة، فوجدوا الملك جالسا على العرش ويقف إلى جواره ابنه الأمير، شابا جميلا. وأقام لهم الملك حفلا وقال: «يا علمائى، يا حكمائى، أشكركم كثيرا على هذا الكتاب الذى سيفيد الناس ويدخل البهجة على قلوبهم. ولكننى للأسف بعد خمسة أعوام أصبحت مهموما جدا بأمور المملكة، وصرت ملكا عجوزا متاعبى كثيرة، ولذا أرجو منكم أن تلخصوا هذين الجزأين حتى يمكننى أن أقرأ ما جاء فيهما». حزن العلماء والحكماء كثيرا، ولكنهم مع هذا وافقوا على أن يلخصوا للملك العجوز كتابهم. عند هذا هز بعض الناس رءوسهم، ولزم الكثيرون الصمت، وغابت الشمس، وطارت الطيور، وحطت الفراشات على الأغصان، وذهب الناس إلى منازلهم. وزع العلماء والحكماء العمل، ومر عامان كاملان، وهم يعملون ليلا ونهارا، وبزغت الشمس وغربت كعادتها كل يوم، وتغير شكل القمر مثلما يفعل كل شهر، وأورقت الأشجار وتساقطت أوراقها مرتين، والعلماء والحكماء يلخصون ويلخصون، ويكتبون الصفحات والصفحات، حتى أصبح الكتاب صغيرا صغيرا، يمكن أن يحمله طفل أو أربعة عصافير. وضعوه على المائدة فكان كشجرة صغيرة خضراء، وسموه «الموجز فى العلوم والفنون». حمل كبير العلماء والحكماء الكتاب الصغير بين يديه ليقدمه إلى الملك العجوز، وساروا كلهم فى القاعة الفسيحة، ولكنهم وجدوا العرش خاويا. فأخبرهم الحاجب أن الملك وابنه ينتظرانهم فى غرفة النوم. وهناك وجدوا الملك ممددا على السرير وإلى جواره ابنه الأمير وأشار الملك إلى كبير العلماء والحكماء وطلب منه أن يجلس إلى جواره. وهمس فى أذنه: «أشكركم على هذا الكتاب، ولكننى كما ترون على فراش الموت ولن يمكننى أن أقرأ كتابكم الصغير». فأمر كبير الحكماء والعلماء الجميع بالسكوت والابتعاد عن الفراش الملكى، ثم مال على أذن الملك المريض وهمس: «يا مولاى، الكل يولد، ثم يفرح ويتألم، ثم يموت». ويقول بعض الشهود ممن حضروا لحظة الودع إن الملك هز رأسه موافقا، بل ويقولون إنهم لمحوا ابتسامة أمل خفيفة على وجهه. أما الأمير فيقولون إنه بعد أن قضى فترة حزن على الملك المتوفى، بدأ قراءة كتاب «الجامع فى العلوم والفنون»، وإنه ازداد ثقافة وعلما وحكمة. والعهدة على الراوى، والله أعلم. قال ظريف: «هذه قصة نهايتها حزينة». فرد الديك حسن: «لا، بل نهايتها سعيدة»، فقالت نور: «إنها قصة نهايتها سعيدة حزينة». وافق الجميع على رأى نور، وأذنّ الديك حسن، فنظر له الأطفال وعرفوا أن الموعد قد حان.