بحكم تخصصى فى الدراسات الأمريكية استرعى انتباهى دوماً مفارقة تتعلق بالعقل الأمريكى وكيفية تعامله مع العالم. فالأمريكيون، أقصد النخبة السياسية تحديدا، رغم أنهم لايكترثون كثيراً بالتاريخ ودروسه فإنهم مولعون بشكل لافت بالقياس الانتقائى على أحداث تاريخية. وغالباً ما يؤدى تضافر هذين العاملين على ما يبدو بينهما من تناقض ظاهرى إلى كوارث كبرى فى اتخاذ القرار. خذ عندك مثلاً خطاب أوباما الأخير الذى أعلن فيه استراتيجيته للتصعيد العسكرى فى أفغانستان، فهو فى ظنى نموذج ممتاز لتلك المفارقة التى شغلتنى طويلاً. فالاستراتيجية التى أعلنها أوباما لأفغانستان نسخة منقحة من استراتيجية بوش للتصعيد العسكرى فى العراق. فقد أعلن أوباما إرسال 30 ألف جندى إضافى لأفغانستان ليصل إجمالى القوات الأمريكية هناك إلى مائة ألف، والهدف هو «استعادة زمام المبادرة» وسحق التمرد، فضلاً عن تكثيف عملية بناء الجيش والشرطة المحلية لتتولى المهام الأمنية ومساعدة حكومة قرضاى على بناء المؤسسات وإجراء الإصلاح والقضاء على الفساد. وبالطبع فإن هذا «القياس» على العراق مبنى على فكرة مبدئية مؤداها أنه طالما نجح التصعيد فى العراق فإنه مؤهل بالضرورة للنجاح فى أفغانستان! وبغض النظر عن حكمنا على مدى «نجاح» التصعيد فى العراق أصلاً، فإن المتيقن أن التخطيط لأفغانستان «قياسا» على العراق مثير للشفقة لأنه القياس الغلط. فالبلدان لا يجمع بينهما سوى أنهما محتلان من قبل القوة نفسها التى يبدو أنها لا تعرف الكثير عن تاريخ وجغرافيا أى منهما بعد سنوات من احتلالهما بل لا تدرك اختلاف التعقيدات الاثنية والسياسية بينهما. فالاثنان بالنسبة لها يقعان «فى الشرق»! أكثر من ذلك، سعى أوباما لتفنيد حجج الذين يقارنون كارثة أفغانستان بهزيمة فيتنام فإذا به يقدم نموذجاً فذاً لما أقصده بالقياس الأمريكى الذى لا محل له من الإعراب. فقد اختار أوباما المتغيرات الغلط فأكد صحة المقارنة بدلا من أن ينفيها. فهو زعم أن هناك اختلافات جوهرية ثلاثة بين أفغانستان وفيتنام لايجوز معها المقارنة، أولها أن «أمريكا فى فيتنام لم تكن مدعومة بائتلاف دولى من 43 دولة كما هو الحال فى أفغانستان». وكأن السبب الرئيسى لهزيمة فيتنام أن أمريكا كانت هناك بلا حلفاء، بل كأن الدول الثلاث والأربعين تلك تقوم فعلاً بدور محورى فى أفغانستان! أما السبب الثانى الذى ذكره أوباما فهو أن أمريكا فى أفغانستان لا تواجه حركة تمرد شعبية واسعة كما فى فيتنام. وهو أمر يكذبه الواقع. فبعد أن جرب الأفغان الحكم الفاسد المدعوم بالاحتلال، فضلاً عن انتشار المخدرات والجريمة ووحشية القصف الذى يروح ضحيته المدنيون، غدت طالبان تلقى تعاطفاً بل حماية شعبية خصوصا فى مناطق البشتون الأفغانية والباكستانية. أما الفارق الثالث الذى ساقه أوباما فهو أن فيتنام لم تهاجم أمريكا مثلما كانت أفغانستان مصدراً لهجوم 11 سبتمبر. والحقيقة أن جريمة 11 سبتمبر لاعلاقة لها بالمقارنة، فالمقارنة تنصرف إلى الاستراتيجية الفاشلة نفسها التى اتبعتها أمريكا فى أفغانستان وقبلها فى فيتنام، أى «ملاحقة المتمردين» والتى تقوم على رشوة بعضهم ودحر الآخرين عبر القصف الوحشى الذى يروح ضحيته آلاف المدنيين فضلاً عن توسيع نطاق الحرب لدول أخرى وهو ما يحدث الآن عبر عمليات المخابرات والقوات الخاصة الأمريكية داخل باكستان. الطريف فى الولع الأمريكى بالقياس على حدث تاريخى هو أنه يحدث بالتلازم مع عدم الاكتراث بدراسة التاريخ نفسه، وإلا لأدرك الأمريكيون درساً تاريخياً بسيطاً وهو أن الاحتلال يولد المقاومة واقرأوا تاريخ أفغانستان تحديداً مع كل احتلال بدءا باليونانيين ومروراً بالمغول والبريطانيين ووصولاً للسوفييت!