لم تُفلح المعمعة التى تلت مباراتى مصر والجزائر فى إبعادى عن موضوع هذا المقال، بل لعلها ساهمت بقدر كبير فى الرجوع إليه، خاصة أن (الكرامة) كانت من أكثر المفردات استخداماً فى الخطابين الإعلامى والسياسى اللذين صاحبا تلك المعمعة! الحكاية تتعلق بتقليد بريطانى يقوم بموجبه رئيس الوزراء بتقديم التعزية لأسر الجنود البريطانيين الذين يلقون حتفهم فى العمليات العسكرية.. فى العادة تأخذ التعزية صورة رسالة يخطها رئيس الوزراء بقلمه، ثم يتولى مكتبه إرسالها إلى أسرة الجندى.. فى الشهر الماضى قام جوردن براون، رئيس الوزراء الحالى، بكتابة رسالة إلى أمٍ بريطانية فقدت ابنها فى أفغانستان.. فعل براون ذلك كثيرا، ومن قبله سار علىالدرب نفسه سلفه تونى بلير، لكن الحظ العاثر صادف بروان هذه المرة، فبدلا من كتابة اسم عائلة الجندى (جاينز) كتبه (جايمس)، كما أنه ارتكب فى الرسالة نفسها خمسة أخطاء إملائية!.. هنا فُتحت على الزعيم البريطانى أبواب جهنم فى وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى!.. كنت حينها فى لندن وتابعت بدهشة ممزوجة بحسد كيف تحول ذلك الحدث إلى القضية رقم واحد التى تشغل بال البريطانيين عدة أيام.. تلقفتْ صحيفة (الصن) واسعة الانتشار الأمر ونقلت رد فعل والدة الجندى التى هاجمت براون، واتهمته بإهانة كرامتها ومشاعرها!.. قالت الأم: (بعد مقتل ابنى تلقيت عدة رسائل من الأمير فيليب زوج الملكة ومن وزير الدفاع ومن قادة الأفرع العسكرية، وجميعا كان نابعا من قلوب أصحابها، لكن رسالة رئيس الوزراء أصابتنى بالاشمئزاز!).. سارع براون بالاتصال هاتفيا بالأم ليعتذر لها شخصيا، لكن مهمته لم تكن سهلة.. استغرقت المكالمة 13 دقيقة مرت على الزعيم البريطانى كدهر كامل بسبب شعوره البالغ بالإحراج.. صبت عليه الأم جامَ غضبها، حتى وهو يكرر أنه لم يقصد المساس بكرامتها.. حاول براون توجيه الحديث إلى بطولة ابنها وتضحيته، فكانت تجيبه باقتضاب: أعرف ذلك.. وفى النهاية لم تقبل السيدة الاعتذار!.. دافع أنصار براون عن زعيمهم وأشاروا إلى أنه يعانى منذ سنوات شبابه ضعفا فى النظر، بسبب تعرضه لإصابة أثناء ممارسة لعبة الرجبى، وهو ما يجعله يرتكب أخطاء إملائية أثناء الكتابة باليد.. غير أن معارضيه وقفوا إلى جانب والدة الجندى القتيل واعتبروا أن رئيس الحكومة البريطانية أساء إلى كل الجنود الذين قتلوا من أجل الوطن! قلبت علىَّ هذه الحكاية مواجع كثيرة، واستدعت حوادث عديدة لجنود بواسل ومواطنين أبرياء لم ينتصر لكرامتهم لا وزير ولا غفير.. وما زاد طينَ المواجع بِلة أن معظم القابضين على سلطة القلم والميكروفون والكاميرا يسعون بلا خجل لتبديل مفهوم الكرامة!.. اختزلها هؤلاء فى الدفاع عن مشجعى المنتخب الوطنى الذين تعرضوا فى الخرطوم لاعتداءات همجية من مشجعين جزائريين!.. جميلٌ أن نهب للذود عن كرامة المصريين، كل المصريين، فى الداخل والخارج، والأجمل ألا نقصر ذلك على مشجعى كرة القدم وغيرها من الرياضات، بل نشمل أيضا عمالَ التراحيل والموظفين الغلابة وسكان العشوائيات وأهل المقابر الأحياء، وأسر الجنود الأسرى الذين قتلتهم إسرائيل، والشباب الذى يغامر فى قوارب الموت ليهاجر إلى أوروبا بعدما فقد الأمل فى الحصول على فرصة عمل!.. تلك عينة فى قائمة طويلة لفئات تستحق أن ندافع بصدق عن كرامتها ببرامج تنمية حقيقية، وليس بشعارات رنانة ولا بطريقة مسرحية كتلك التى اجتهد وتوسل بواسطتها خالد الغندور لتنزل من عينيه الدموع أثناء حديثه الهاتفى الشهير مع علاء مبارك! [email protected]