عندما يحل المساء يوم السادس من يناير2010، ستدق أجراس كنيسة مارمرقس فى مارسيليا احتفالاً بقداس عيد الميلاد المجيد. فى طقس شديد البرودة يلف أوروبا كلها وليس فرنسا فقط، يتوجه الأستاذ نجيب عازر وأسرته الصغيرة لكنيستهم فى المهجر للاحتفال بالعيد مع عدد من المصريين المقيمين هناك فى أقدم المدن الفرنسية وأكبر ميناء تجارى فرنسى، فى جو بهيج لا يخلو من طابع رسمى بحضور أعضاء البعثة الدبلوماسية المصرية. الأستاذ نجيب مواطن مصرى فى الخمسينيات من العمر، ولد وتربى فى المحلة الكبرى، غادر مصر إلى مارسيليا عام 1974 بحثاً عن الرزق والحياة الكريمة. «بقالى هنا خمسة وتلاتين سنة، وأعتبر من أقدم المصريين فى مارسيليا.. دلوقت معايا الجنسية الفرنسية وأعامل كمواطن فرنسى دون أى تفرقة، لكن طريقى ما كانش مفروش بالورد».. يواصل الكلام وهو جالس فى مطعمه المطل على الميناء القديم. تنفرج ملامح وجهه ويبتسم عندما يحكى عن المحلة وعن دراسته للتجارة وعن صديق عمره محمود الذى يعمل مديراً لأحد البنوك بالمنصورة، ولا يكون العيد عيداً إلا عندما يتلقى مكالمته من القاهرة للتهنئة. يقول بفخر: «يلقبوننى من باب الدعابة بشنودة - كشك، نسبة للشيخ كشك، لأنى مطلع على الثقافة الإسلامية وأدخل فى نقاشات ودية مع أصدقائى المسلمين». - إيه رأيك يا أستاذ نجيب فيما يحدث بين المسلمين والمسيحيين من تعصب؟ «أرجوكى ما تقوليش مسلمين ومسيحيين. ده مش طبعنا أبداً». - لكن مش شايف إن ده كلام مثالى بعيد عما يحدث فى الواقع؟ «دى مسؤولية من يقود الناس، الشيخ فى الجامع والقس فى الكنيسة، هم المتسببين فى حشد الناس ضد بعض.. المتعصبين دول ناس غريبة بيسيئوا لدينهم لإن الإسلام مثلاً ما قالش كده، لكن الناس البسطا تلاقى بينهم المودة والمعاملة الطيبة شىء طبيعى. أما الناس اللى بيعملوا شركات ويسموها إسلامية وما يشغلوش فيها غير مسلمين واللى بيعملوا شركات تانية للمسيحيين بس، ده شىء مؤسف وغريب». يتابع مواطننا أخبار مصر على القناة الفضائية المصرية وعندما يصادفه الأذان لا يغيّر المحطة، وهو القبطى حتى النخاع، بل يواصل الاستماع إليه باحترام لأنه جزء من وجدانه. «والدتى لما كانت تسمع الأذان كانت تنظر للسماء وتدعى لنا: ربنا ينجحكوا يا ولادى ويسلمكم من كل شر». أغادر مارسيليا وصورة الأستاذ نجيب لم تغب عن بالى. ذكّرتنى حكايته بمخزونى الخاص من الجيرة والصداقات والعشرة فى حى شبرا، وبقدر ما هى ذكريات تبدو عادية وبسيطة إلا أنها تصبح اليوم غالية وثمينة، فى وقت يسألك فيه البعض عن ديانتك (إذا لم يكن فى مظهرك ما يدل عليها) قبل أن يأمنوا لك ويسلموا عليك أو يعاملوك معاملة إنسانية طيبة بالحق والعدل والضمير والأصول.