لم أتعجب كثيراً عندما قرأت بالصفحة الأولى لأهرام 258 خبراً عنوانه «88% من مشتركى التأمين الصحى لا يستفيدون منه».. وهو تلخيص لاستطلاع رأى بين عينة عشوائية من مشتركى التأمين الصحى، قام به مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء.. تباينت أسباب هذا العزوف عن الاستفادة من خدمات التأمين الصحى- كما جاء بالخبر– بين من لم يجد حاجة لهذا، ومن يتخوف من الزحام الشديد والانتظار فترات طويلة، ومن يعتقد أن أطباء التأمين الصحى لا يهتمون بتوقيع الكشف الطبى الدقيق على المرضى، ولا يعطونهم الوقت أو الاهتمام الكافى، ومن يرى أن الأدوية التى يصرفها التأمين الصحى لهم عديمة الفاعلية، بعد ذلك بيومين وبأهرام الجمعة 278 جاء فى زاوية «رأى الأهرام» التى تُعبر كما هو معروف عن رؤى النظام فى الموضوعات المختلفة ما نصه: «عندما يقول 88% من مُشتركى التأمين الصحى إنهم لم يستفيدوا بخدماته خلال عام 2010 فإن ذلك يعنى أن هناك خطأً كبيراً فى هذا النظام يجب الإسراع بتحديده والعمل على تلافيه»، وجاء بالرأى أيضا ما نصه: «إن الأخطر من ذلك أن الدولة تعتزم مد مظلة التأمين الصحى لتشمل غالبية المصريين.. أى أن هذا التوسع الذى يعنى تخصيص مليارات أخرى من الجنيهات سيكون مصيره عدم الاستفادة منه، بل وتزايد الشكوى من تردى الأوضاع.. وبمعنى آخر فإن التوسع سوف يعنى زيادة فى تراجع مستوى الخدمة، وكأن الدولة ترمى أموالها فى بحر الإهمال والفساد والبيروقراطية»! قلت إننى لم أتعجب من كل هذا الذى قرأته، لأننى كنت أتوقعه، ولكن عجبى ودهشتى كان لما نُشر فى أهرام الأحد 298 على هيئة خبر جاء فيه تصريحات للدكتور ناصر رسمى، مساعد الوزير الرئيس الجديد لهيئة التأمين الصحى، الذى تولى مسؤوليتها، بعد حركة تبادل كراسى بينه وبين مساعد الوزير الآخر الدكتور سعيد راتب الذى تولى مسؤولية القطاع العلاجى بالوزارة، بعد أن أمضى مايقرب من خمس سنوات على رأس هيئة التأمين الصحى، يدرس ويسافر ويبحث وينقب ويتعمق ويُجادل ويتعارك ويتصالح ويفكر ويقترح من أجل قانون ونظام جديد للتأمين الصحى لم ير النور حتى الآن.. المهم أن الرئيس الجديد للهيئه أدلى بدلوه فى موضوع الاستطلاع الذى قام به مركز معلومات مجلس الوزراء فقال كما جاء بنص الخبر «أن 88% من المشتركين فى نظام التأمين الصحى فى مصر ليسوا فى حاجة إليه، وذلك يعود إلى أن هؤلاء من صغار السن ولا يحتاجون للخدمة»، أى بمعنى آخر أن الغالبية العظمى من المصريين فى صحة جيده ولا يتعرضون لكوارث وحوادث كل يوم بل كل ساعة! وأستغرب كيف توصل إلى هذا التفسير لنتيجة الاستفتاء الذى كان بالتأكيد يسأل الناس عما إذا كانوا سيذهبون لمستشفيات وعيادات التأمين الصحى عند الحاجة إلى ذلك أم لا؟ والمسألة لا تحتاج إلى استفتاء أو غيره للتأكد من سمعة الخدمة بهذه الهيئة على الرغم من كل الجهود التى تحاول إصلاح أحوالها.. وجاء بنفس الخبر كذلك أن الرئيس (الجديد) للهيئة تحدث عن نظام (جديد) لفصل الخدمة عن التمويل– بالمناسبه فهذا الذى يتخيلونه حلاً سحرياً أسمع عنه وعن مناقشات حوله وآراء بين الرفض له والقبول به منذ أكثر من عشر سنوات– وعن نظام الحجز الآلى وقرض من البنك الدولى قيمته 75 مليون جنيه لتأسيس نظام معلوماتى قوى خاص بالتأمين الصحى. مثل هذا الاستطلاع وغيره من الأخبار التى نقرأها كثيراً هذه الأيام حول ما يعانيه الفقراء ومحدودو الدخل للحصول على مايلزمهم من علاج، والشكاوى المُستمرة من تدهور الخدمات الصحية بالمستشفيات، مثلما قرأت مؤخراً عن تجربة للكاتب المثقف المحترم د. سمير مرقس، نشرها ب«المصرى اليوم» عرض فيها لتجربة خاصة، عانى فيها ما عانى من أجل الحصول على خدمة طبية مقبولة ومعقولة بعد منتصف الليل فى أحد أحياء القاهرة الراقية وهو مصر الجديدة.. أقول إن مثل هذا كله يُشعرك دون شك بأننا مازلنا فى «المربع صفر»! إننى أدرك تماماً وعن تجربة ويقين أن د . حاتم الجبلى جاء إلى الوزارة برؤية جيدة للتطوير والتحديث وبنوايا طيبة كثيرة، وأنه بلا شك له العديد من الإنجازات التى تُحسب له مثل ما حدث لمرفق الإسعاف من تطور ملحوظ– وإن كان علينا ألا ننسى أن خدمة الإسعاف تنتهى عند باب المستشفى الذى يُنقل إليه المريض أو المصاب وما يحدث بعد ذلك هو الأهم– وكذلك توجيه العناية وإثارة الانتباه لمواضيع حيوية للخدمة الطبية السليمة لم تكن أبداً من الأولويات مثل مفاهيم ومعايير جودة الخدمة والاهتمام بمكافحة العدوى، ووقف بناء المزيد من الإنشاءات التى تم التوسع فيها من قبل بطريقة عشوائية وبإسراف لا لزوم له، ومحاولة تحقيق أقصى استفادة من المُنشآت الموجودة، مثل ما حدث فى بعض وحدات الصحة الأولية من تطوير.. ولكننى أدرك كذلك أن الدكتور حاتم قد ورث تركة ثقيلة من المشكلات التى تسبب فيها من سبقوه لم يعطها ما كانت تستحقه من اهتمام وآثر السلامة بالبعد عنها والاعتماد فيها على معاونين من دائرة ضيقة من أصحابه ومعارفه، لم تكن لهم أى خبرات سابقة أو حتى اهتمامات بما يحدث فى وزارة الصحة، ولم تغب المصلحة الشخصية عن أذهان الكثير منهم، وبتلخيص شديد أوجز هذه المشكلات والقضايا فى الآتى: (1) مهزلة ما يُسمى العلاج على نفقة الدولة وفتح أبواب الانحراف على مصراعيها لنهب أموال الدولة وصرفها لمن لا يستحق والرضوخ لضغوط أصحاب المصالح (2) ما تم من تخريب للمؤسسة العلاجية التى كانت هى الكيان الذى يُمكن البناء عليه كأساس للخدمة العلاجية بمستشفيات وزارة الصحة، وذلك بنزع أهم مستشفياتها لتتبع مكتب وزير أسبق، ثم ضمها بعد ذلك إلى وزارة الصحة بعد ذلك بتسمية كيان مُشوه جمع كيانات طبية مُختلفة لا شىء يجمعها تحت مُسمى «أمانة المراكز الطبية المتخصصة» توسعت وتوغلت وصارت مثالاً للإنفاق السفيه وإهدار المال العام، وهو ما أعتقد أن جهات رقابية مُحترمة سوف تُظهره يوما ما (3) مسؤولية تعليم وتدريب الأطباء بالحصول على شهادة تخصص مُحترمة تحمل اسم مصر وهى «الزمالة المصرية فى التخصصات الطبية المختلفة»، كان يجب إعطاؤها مزيدا من الاهتمام والدعم وأن يجد الطريق لمشاركة الجامعات المصرية ومجلسها الأعلى فى تحمل مسؤوليتها والاعتراف بها كشهادة التخصص الوحيدة المُعترف بها إذا كنا فعلا جادين ومهمومين بمستوى أداء الأطباء (4) بيروقراطية إدارية وترهل وفساد فى العديد من مواقع وزارة الصحة وديوانها العام يصعب التعامل معه فضلاً عن استئصاله (5) علاقة مُتوترة وغير مُحددة المعالم مابين السلطة المركزية بالوزارة وسلطات الإدارات المحلية فى ظل غياب سياسة واضحة للنظام الحاكم وحكومته تجاه مُعضلة لا مركزية الخدمات (6) وأهم من ذلك كله أنه ورث «أطباء بلا حقوق»- وعذراً للطبيبة النشطة المُتميزة منى مينا لاستعارتى اسم المجموعة التى تقودها للدفاع عن حقوق الأطباء بكل حماس ووطنية– وهيئات تمريض مُحبطة وزاهدة فى العمل ومثلها بمختلف التخصصات المعاونة فى الخدمة الطبية. هذا بعض من الإرث الثقيل الذى ورثه وزير الصحة الحالى، والذى قد يكون لى فى الأسابيع القادمة تعليق عليه إن شاء الله، وكيف كانت مواقف الوزير ذى النوايا الحسنة تجاهها.