دنيا! منذ عقدين من الزمان قمت فى جامعة ميامى الأمريكية ومعى زميل آخر ببحث ميدانى كان يشمل استطلاعا لآراء الخبراء من الأكاديميين والمديرين ورؤساء الشركات الكبرى والباحثين المهتمين بشؤون التنافسية العالمية والتغيرات التكنولوجية والاقتصادية بالبلاد المختلفة وكانت النتيجة التى انتهينا إليها وانتهى إليها غيرنا أن اليابان هى القوة الاقتصادية الأولى الصاعدة وأنها فى مركز الصدارة فى التنافسية العالمية، متفوقة حتى على أمريكا التى راحت وقتها تفقد موقعها لصالح بلاد آسيوية ناهضة، ولم تكن للصين أهمية تذكر عند ذاك. واليوم حين تعلن المؤسسات الدولية أن الصين واصلت النمو بنسبة 9.5% سنويا وأنها قفزت مؤخرا من المركز الثالث فى الترتيب العالمى من حيث حجم الناتج المحلى إلى المركز الثانى متخطية غريمتها اليابان فإن العجب يجب أن يأخذنا. لقد استنفرت أمريكا طاقاتها بعد نتيجة البحث الذى أشرت إليه وتمكنت من استعادة الصدارة فى الأعوام اللاحقة بفضل عدد من الظروف الدولية كانهيار الاتحاد السوفيتى وبفضل سياسات كلينتون الاقتصادية والأهم بسبب إعادة هيكلة الشركات والمؤسسات اعتمادا على التكنولوجيا الحديثة والابتكار وريادية الأعمال لكن القلق ظل يساور الأمريكيين، فإذا كان صعود الصين الصاروخى الذى لم يتوقعوه قد حدث فما الذى يمكن أن يحدث أيضا فيما هو قادم من أوقات، وما الذى سيترتب عليه من انعكاسات سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية فى أمريكا بل العالم كله؟. صحيح أن الناتج الأمريكى ظل أكبر بكثير من اليابان وقت تقدمها ومن الصين حاليا وأن متوسط نصيب المواطن الصينى من الناتج يقل بكثير عن الأمريكى لكن معدل التغير فى دخل الصينى هو ما يسترعى الانتباه ويستحق الإعجاب حيث لم يحدث أن تمكن الأمريكيون من إنجاز مثله، إضافة إلى أن ذلك يحدث فى بلد متخم بالسكان (1.3 مليار) وتتولى فيه الدولة بحكم طبيعة النظام الشيوعى الكثير من الأعباء والمهام الاجتماعية (تعليم، سكن، صحة.. إلخ). يعرف الأمريكيون كما يعرف غيرهم أن بروز الصين لم يتم صدفة وأن خلفه رؤية ثاقبة وعزيمة جبارة أطلقهما دينج هسياو بنج منذ 1978 مع إرادة صارمة للتحول إلى اقتصاد السوق وتحديث الزراعة والصناعة والتعليم والتكنولوجيا ومازالت المسيرة تتواصل. قبل ذلك كانت هزيمة اليابان الساحقة فى الحرب العالمية الثانية هى التى خلقت رغبة عارمة لدى اليابانيين لاستعادة كرامة الدولة وبناء وطنهم بالعمل الجاد والدوؤب والاستراتيجية الواضحة الذكية، ونال اليابانيون ما سعوا إليه لكن يبدو أن الرخاء والتقلبات السياسية وعوامل أخرى قادت إلى التراخى والتراجع وكأن اليابان تطبق نظرية المفكر العربى الأشهر ابن خلدون فى صعود وأفول الدول والممالك. لكن لم يطرح أحد حتى الآن السؤال حول متى يبدأ تراجع الصين وهل سيكون الرخاء وقتها أيضا هو السبب أم عوامل أخرى؟ معروف أن أكثر من ثلث سكان الصين مازال يعانى من الفقر رغم كل التقدم الذى حدث هناك. * رئيس جامعة النيل