مصر تحاصر الحمى القلاعية |تطعيم الحيوانات ب 1.5 مليون جرعة منذ أواخر أكتوبر.. والمستهدف 8 ملايين    «الداخلية» تكشف حقيقة الادعاء بتزوير الانتخابات البرلمانية بالمنيا    أطعمة تزيد حدة نزلات البرد يجب تجنبها    رئيس الوزراء المجرى: على أوروبا أن تقترح نظاما أمنيا جديدا على روسيا    الاتحاد الإفريقى: المؤسسة العسكرية هى الكيان الشرعى المتبقى فى السودان    كولومبيا توقع صفقة تاريخية لشراء مقاتلات سويدية من طراز «Gripen»    تريزيجيه: اتخذت قرار العودة للأهلي في قمة مستواي    سويسرا تكتسح السويد 4-1 في تصفيات كأس العالم 2026    البنك الأهلي يقود تحالف مصرفي لتمويل المرحلة الأولى من مشروع "Zag East" بقيمة مليار جنيه    الطفل عبدالله عبد الموجود يبدع فى تلاوة القرآن الكريم.. فيديو    أخلاق أهل القرآن.. متسابق فائز يواسى الخاسر بدولة التلاوة    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. إسرائيل: لا إعادة إعمار لقطاع غزة قبل نزع سلاح حماس.. قتلى وجرحى فى انزلاق أرضى فى جاوة الوسطى بإندونيسيا.. الجيش السودانى يسيطر على منطقتين فى شمال كردفان    وزير الصحة يعلن توصيات النسخة الثالثة للمؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية    المتسابق محمد وفيق يحصل على أعلى الدرجات ببرنامج دولة التلاوة    الأمم المتحدة: 30 مليون شخص بالسودان بحاجة إلى مساعدات    وزارة العمل تسلّم 36 عقد عمل لشباب مصريين للسفر إلى الأردن ضمن خطة فتح أسواق جديدة للعمالة    مجموعة مكسيم للاستثمار راعٍ بلاتيني للمؤتمر العالمي للسكان والصحة PHDC'25    البرازيل: الرسوم الأمريكية على البن واللحوم والفواكه الاستوائية تبقى عند 40% رغم خفض ترامب لبعض الضرائب    الأهلي يكرر فوزه على سبورتنج ويتأهل لنهائي دور مرتبط السلة    أسامة ربيع: أكثر من 40 سفينة تعبر قناة السويس يوميًا    هل تشفي سورة الفاتحة من الأمراض؟.. داعية توضح| فيديو    (كن جميلًا ترَ الوجودَ جميلًا) موضوع خطبة الجمعة المقبلة    رامي عيسي يحصد برونزية التايكوندو في دورة ألعاب التضامن الإسلامي 2025    مؤتمر جماهيري حاشد ل"الجبهة الوطنية " غدا بستاد القاهرة لدعم مرشحيه بانتخابات النواب    محافظ الدقهلية خلال احتفالية «المس حلمك»: نور البصيرة لا يُطفأ ومصر وطن يحتضن الجميع| فيديو    أسباب الانزلاق إلى الإدمان ودوافع التعافي.. دراسة تكشف تأثير البيئة والصحة والضغوط المعيشية على مسار المدمنين في مصر    الأرصاد: تحسن في الطقس وارتفاع طفيف بدرجات الحرارة نهاية الأسبوع    استشاري أمراض صدرية تحسم الجدل حول انتشار الفيروس المخلوي بين طلاب المدارس    تعديلات منتظرة في تشكيل شبيبة القبائل أمام الأهلي    عاجل خبير أمريكي: واشنطن مطالَبة بوقف تمويل الأطراف المتورطة في إبادة الفاشر    وزير الصحة يشهد إطلاق الأدلة الإرشادية الوطنية لمنظومة الترصد المبني على الحدث    عملات تذكارية جديدة توثق معالم المتحف المصري الكبير وتشهد إقبالًا كبيرًا    حبس والدى طفلة الإشارة بالإسماعيلية 4 أيام على ذمة التحقيقات    قضية إبستين.. واشنطن بوست: ترامب يُصعد لتوجيه الغضب نحو الديمقراطيين    برلماني: مهرجان الفسطاط نموذج حضاري جديد في قلب القاهرة    الليلة الكبيرة تنطلق في المنيا ضمن المرحلة السادسة لمسرح المواجهة والتجوال    جامعة قناة السويس تنظم ندوة حوارية بعنوان «مائة عام من الحرب إلى السلام»    الداخلية تكشف ملابسات تضرر مواطن من ضابط مرور بسبب «إسكوتر»    سفير الجزائر عن المتحف الكبير: لمست عن قرب إنجازات المصريين رغم التحديات    جنايات بنها تصدر حكم الإعدام شنقًا لعامل وسائق في قضية قتل سيدة بالقليوبية    موعد مباراة تونس ضد النمسا في كأس العالم تحت 17 عام    عاجل| «الفجر» تنشر أبرز النقاط في اجتماع الرئيس السيسي مع وزير البترول ورئيس الوزراء    دعت لضرورة تنوع مصادر التمويل، دراسة تكشف تكاليف تشغيل الجامعات التكنولوجية    أسماء مرشحي القائمة الوطنية لانتخابات النواب عن قطاع القاهرة وجنوب ووسط الدلتا    فرص عمل جديدة بالأردن برواتب تصل إلى 500 دينار عبر وزارة العمل    آخر تطورات أسعار الفضة صباح اليوم السبت    تحاليل اختبار الجلوكوز.. ما هو معدل السكر الطبيعي في الدم؟    عمرو حسام: الشناوي وإمام عاشور الأفضل حاليا.. و"آزارو" كان مرعبا    مواقيت الصلاه اليوم السبت 15نوفمبر 2025 فى المنيا    الحماية المدنية تسيطر على حريق بمحل عطارة في بولاق الدكرور    الإفتاء: لا يجوز العدول عن الوعد بالبيع    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    نقيب المهن الموسيقية يطمئن جمهور أحمد سعد بعد تعرضه لحادث    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    نانسي عجرم تروي قصة زواجها من فادي الهاشم: أسناني سبب ارتباطنا    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    حسام حسن: هناك بعض الإيجابيات من الهزيمة أمام أوزبكستان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
الآيباد ipad....‏ وأنا
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 04 - 2010

ليس سهلا علي الكاتب السياسي أن يترك موضوعاته المفضلة علي امتداد الساحة الوطنية من أول الإصلاح السياسي‏,‏ والتغيير في السلطة والمجتمع‏, حتي تأثيرات إنشاء طريق الكريمات بني سويف الجديد الذي قيل إنه سوف يجعل المدينة واحدة من ضواحي القاهرة‏,‏ كما فعل طريق العين السخنة الذي جعل العاصمة المصرية مدينة ساحلية‏.‏ ولكن حكاية ما جري كانت كافية لكي تجعل حكايات كثيرة أخري قابلة للانتظار‏,‏ فالقصة ليست عن علاقة فرد مع التكنولوجيا الجديدة‏,‏ ولكن ربما كانت قصة مجتمع بأسره‏,‏ وما عليك إلا أن تتصفح أيا من مذكرات القرن التاسع عشر لكي تري ماذا فعلت السكك الحديدية بمصر‏,‏ أو تتابع ما حدث في القرن العشرين حتي تجد نفسك في مواجهة الكهرباء فورا‏.‏
وربما بات الموضوع الآن هو ثورة الاتصالات الخرافية التي لم تبدأ مع وصول جهاز الآيباد‏iPad‏ إلي مكتبي ولكنه كان آخر فصولها‏,‏ وهو الفصل الذي بدأ بدخولي مكتب رئيس مجلس إدارة الأهرام لكي أجده دون جهاز كمبيوتر‏,‏ وعندها اكتشفت أنني أول من حاز علي هذا الشرف من بين أجيال كثيرة من المبدعين‏.‏
ولعل أول الفصول بدأ في واحد من أيام خريف عام‏1976‏ عندما كان علي الدارس للدكتوراه في جامعة شمال إلينوي أن يختار مادتين لا بد منهما باعتبارهما أدوات للبحث كان من بينها الإحصاء والرياضيات والمنطق العلمي‏,‏ ولما كنت قد درست بعضا من الإحصاء في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فقد اخترتها‏,‏ بينما كانت الرياضيات من الثقل علي ذكائي بحيث لم يبق منها إلا الدرس الأخير‏.‏ ولكن الرحلة مع أدوات البحث لم تكن سهلة أبدا‏,‏ وكان من بين الصعوبات أن ظهر لأول مرة ما عرف بجهاز الكمبيوتر الذي سمعنا عنه من قبل باعتباره يحل كل مشكلات الكون‏,‏ ولكن ما اكتشفته أنه لا يستطيع حل أي من مشكلاتي‏.‏ فقد كان يشبه نوعا من الآلة الكاتبة الكبيرة‏,‏ ولكنها لا تكتب وإنما تقوم بتثقيب كروت من نوعية خاصة‏,‏ وهذه يجري وضعها في جهاز يشبه آلة عد النقود‏,‏ وبعد أن تجري هذه العملية تكون طابعة قد استوعبت المادة المثقوبة لكي تطبع النتائج علي ورق عريض‏.‏ المهم أنه لكي يتم تفعيل هذه الآلة الجهنمية كان لا بد أن تعرف فنون استخدام الآلة الكاتبة‏,‏ وعندما عرف أستاذي في ذلك الوقت أنني لا أعرف‏,‏ قال لي‏:‏ ربما تكون ماهرا في التحليل السياسي‏,‏ ولكنك لم تصل إلي الثورة الصناعية الأولي بعد‏!.‏ وساعتها تذكرت نقاشات وحوارات كثيرة كانت تجري بالقاهرة في عنفوان هائل من قبل قبيلة من المفكرين لم يلمس أي من أصابعهم تلك الثورة أيضا برغم أنهم جميعا كانوا يتحدثون عن حركة التاريخ‏.‏
وبالطبع قمت بحل المشكلة من خلال الإصرار والعمل والتقليد للآخرين‏,‏ وكانت معضلة المعضلات هي أن خطأ واحدا‏,‏ في ثقب واحد‏,‏ كان كافيا لفساد المسألة كلها مهما كانت الإحصاءات دقيقة والأرقام موثوقا منها‏,‏ ولا بد في كل مرة أن تبدأ المسألة من أولها‏.‏ وكان ذلك ما فعلته مرارا وتكرارا‏,‏ ولعل ذلك مع الدعوات القادمة من المحروسة كان كافيا ساعة الامتحان‏.‏ وبرغم النجاح فقد صار في الأمر عقدة أظنها تأتي للمجتمعات أيضا ساعة اتصالها بتكنولوجيات معقدة‏,‏ ومع ذلك لم أكن جاهزا ساعة أن جاءت التكنولوجيا السهلة في الاستخدام‏.‏ وباختصار كان ستيف جوبز قد اخترع جهاز الكمبيوتر الشخصي عام‏1976‏ ومع أول الثمانينيات ظهرت أول أجيال إنتاجه وهكذا قررت أن تكون رسالتي للدكتوراه إدارة الولايات المتحدة لأزمة أكتوبر‏1973‏ في الشرق الأوسط مكتوبة أو مطبوعة إذا شئت علي هذا الجهاز الذي كان أول علامات ميلاد الثورة الصناعية الثالثة حتي لو لم أكن قد عبرت الثورة الأولي بعد‏.‏
وهكذا انتهيت من مناقشة رسالة الدكتوراه يوم‏27‏ أغسطس‏1982,‏ وكنت في طريقي إلي القاهرة يوم الثامن من سبتمبر‏,‏ وعشت في انتظار وصول رسالة الدكتوراه بعد أن تكون السيدة التي تولت كتابتها علي الكمبيوتر قد أرسلتها عن طريق البريد السريع‏.‏ وبالفعل وصلتني رسالة من قرية البضائع بمطار القاهرة الدولي لكي تخبرني عن وصول صندوق يخصني‏,‏ ولكن الحصول علي الصندوق لم يكن سهلا بالمرة حيث كنت أتحدث عن رسالتي للدكتوراه وهي مادة علمية لا تفرض عليها جمارك والموظفون لا يجدونها في المكان المخصص للمادة العلمية‏.‏ وبعد مشقة وعدة زيارات ظهرت المسألة جلية ساطعة‏,‏ فما كان مادة علمية لم يكن حزمة من الورق‏,‏ وإنما كان مجموعة من الأسطوانات المرنة التي رأت جماعتنا في المطار أن مكانها هو هيئة الرقابة علي المصنفات الفنية التي عليها حماية الوطن من الأغنيات الخليعة التي قد تفسد أخلاق المجتمع‏.‏ وهكذا أصبحت أمام مشكلات عظمي كان أقلها أن الرسالة لم تعد مصنفة كمادة علمية‏,‏ وإنما كمادة فنية أي من الفن وجب دفع الضرائب عليها‏;‏ ولكن المشكلة الأعظم كانت أنه لا بد من اختبار هذه المادة بالاستماع إليها واكتشاف ما هو خليع فيها وهو ما يعني تدمير رسالتي الجامعية التي لم تكن أسطواناتها تتحمل تلك النوعية من الجرامافونات التي تقوم إبرة حساسة فيها بترجمة خطوط أسطوانات الغناء إلي ألحان شجية مسموعة‏.‏
والبشري هي أنه تم إنقاذ الرسالة‏,‏ أو الأسطوانات التي كتبت عليها‏,‏ أما العزاء فكان لأن ذلك لم يعد للأسف ينفع كثيرا‏,‏ لأن الجهاز الذي كتبت أو طبعت عليه لم يعد له وجود في الكون كله‏.‏ وربما كان ذلك هو لعنة الثورة الصناعية الثالثة حيث لا تنتهي من اختراع حتي تجد آخر قد ألغاه فورا‏,‏ وفي المجتمعات التي لا تتغير كثيرا مثل مجتمعاتنا فإن كل شيء يبدو غريبا ومدهشا تماما في كل مرة يجري فيها مثل هذا التطور‏.‏ وكان ذلك هو ما حدث لي عندما أصبحت زميلا في مؤسسة بروكينجز في واشنطن العاصمة بالولايات المتحدة علي مدي عام ما بين‏1987‏ و‏1988‏ وهناك كان لي مكتبي معدا بجهاز جديد للكمبيوتر يختلف تماما عن الجهاز الذي شاهدته قبل أعوام‏,‏ ولما كنت لم أعبر بعد الثورة الصناعية الأولي فقد اعترتني الصدمة بالتطورات الجارية في الثورة الجديدة حتي لو كنت قد انتهيت توا من نشر كتابي عن العرب ومستقبل النظام العالمي الذي تحدثت فيه كثيرا موضحا كيف أن هذه الثورة سوف تقلب النظام العالمي كله وهو ما حدث فعلا بعد سنوات قليلة‏.‏
ولأول مرة بدا لي واضحا تماما أن هناك فجوة سيكولوجية مع قضية التقدم بصفة عامة والتكنولوجي بصفة خاصة‏,‏ وعندما اعتبر بعض من أجدادنا أن السكك الحديدية كانت نوعا من الأحصنة المصنوعة من الصلب فقد كانوا يعيشون في هذه الفجوة التي لا تفسر فقط الماضي بل تفسر الحاضر أيضا‏.‏ فالتقدم لدي النخبة يبدو نوعا من الفانتازيا أما بالنسبة للعامة فهو نوع من العفاريت‏(‏ أو الأحصنة‏)‏ غير المأمونة‏,‏ وكان الحل جاهزا دائما‏,‏ وهو أن هناك نوعا من الخصوصية التي تحمي الكرامة وتجعل الحديث عن الريادة والأدوار الإقليمية حقيقة ممكنة‏.‏ وعلي أي الأحوال فقد مر عقد الثمانينيات دون لحاق بأي من الثورات الصناعية‏,‏ ولكن مع عام‏1990‏ كان مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام قد حصل علي أول كمبيوتر شخصي‏,‏ وكان الدكتور حسن أبو طالب مدير معهد الأهرام الإقليمي للصحافة حاليا هو أول من عرف كيفية استخدامه‏.‏ وسيذكر التاريخ أنه علي هذا الجهاز جرت كتابة أول تقدير موقف حول أزمة العراق والكويت بعد ساعات قليلة من غزو صدام حسين للكويت‏.‏ ولا أدري شخصيا حتي الآن ما الذي جعل الأهرام تتأخر حتي ذلك الوقت في تحقيق قفزة تكنولوجية ضخمة منذ عصر اختراع القلم وهي التي عرفت الكمبيوتر الرئيسي منذ عام‏1968;‏ وما عرفت بالطبع سببا لغياب التراكم التكنولوجي‏,‏ ربما لأننا استوردنا الكمبيوتر الأول‏,‏ ومر عقدان بعدها حتي استوردنا الثاني‏,‏ وبين هذا وذاك لم يكن هناك نصيب وحظ في المعرفة المنتجة لأيهما‏.‏
ولكن المعجزة حدثت‏,‏ وجري الانتقال بين الثورات الصناعية المختلفة ساعة شراء أول جهاز كمبيوتر أبل ماكنتوش‏2‏ الذي قيل عنه إنه أحدث ما عرفه العالم من تكنولوجيا‏.‏ وكان ذلك في يوم من أيام ابريل عام‏1993‏ عندما أقنعني زميل بالشراء والتعلم‏,‏ وساعتها كنت أعمل مستشارا سياسيا في الديوان الأميري لدولة قطر‏,‏ ولما كان أمير البلاد قد جري انقلاب فعلي‏(‏ الانقلاب الرسمي حدث بعد ذلك في عام‏1995)‏ عليه فلم يعد هو أو وزير الديوان في حاجة لمستشار سياسي‏,‏ وهكذا بات لدينا وقت للفراغ كان كافيا بالنسبة لي لدخول الثورة الصناعية الثالثة حيث كتبت أول مقالاتي‏,‏ وكان لصحيفة الحياة اللندنية بعنوان اليتامي‏,‏ ومن ساعتها لم أكتب شيئا بالقلم مرة أخري‏.‏
عدت إلي الأهرام من التغريبة الخليجية لكي أطالب بدخول مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية إلي عصر الكمبيوتر مبتدئا بالحصول علي أحدث الطرازات‏,‏ أي أن يكون مماثلا لما كان لدي وأستخدمه بالفعل بالمنزل‏.‏ وكان الأستاذ إبراهيم نافع رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير الأهرام كريما عندما جعلني أحصل عليه‏,‏ وعندما التقيت بالمهندس تيمور عبد الحسيب الذي كان مشرفا علي هذا النوع من العمل‏,‏ أخبرني بدهشته الشديدة أنني اخترت جهازا متخلفا بهذه الطريقة حيث تعمر الأسواق بما هو أفضل وأكثر تقدما‏.‏
كان عالم الكمبيوتر قد تغير كثيرا‏,‏ فبعد الثورة التي ولدها ستيفن جوبز‏,‏ واكتساحه الأسواق بآلته العجيبة‏,‏ أفاقت شركة‏IBM,‏ ومن بعدها شركات أخري‏,‏ وظهرت شركة مايكروسوفت والعبقري الخاص بها بيل جيتس بمحركها ويندوز‏Windows,‏ وجري السباق رهيبا حتي إن ستيفن جوبز نفسه جري طرده من شركته أبل نظرا لأنه بات يكبد الشركة خسائر فادحة‏.‏ وعندما أصبحت مديرا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية أدركت التكلفة الباهظة للتغييرات التكنولوجية المتتالية‏,‏ وخلال خمسة عشر عاما كان علينا تغيير الأجهزة والبرامج كل ثلاثة أعوام تقريبا مع تأكدنا من التخلف في كل مرة‏.‏ ومع ذلك وبشكل شخصي فقد سابقت الزمن لكي أظل في قلب الثورة‏,‏ ولم يكن السبب ولعا تكنولوجيا بقدر ما كان ولعا بالتغيير الذي يجري في الزمان والمكان‏.‏
والمسألة ببساطة هي أن السيارة فعلت ذلك من قبل‏,‏ وتعالوا نتخيل الوقت والجهد الذي يستغرقه الذهاب من القاهرة إلي أسوان مشيا علي الأقدام أو علي ظهر جمل أو حتي علي صهوة حصان عربي أصيل‏.‏ وبعد ذلك تعالوا نتخيله جريا بالسيارة أو سفرا بالطائرة‏,‏ هنا فإن قيمة الزمن تغيرت تماما‏,‏ والمسافة أصبحت أقصر بكثير‏,‏ وساعتها فإن وطنا مثل مصر لا يعود صحراء مترامية الأطراف‏,‏ وإنما يمكن لم أطرافه كلها بشبكة من وسائل الاتصال والمواصلات‏,‏ وفي ذلك يصغر البلد من حيث المساحة ولكنه يعلو كثيرا من حيث القيمة المادية والمعنوية بسبب المعرفة الأكثر قربا‏;‏ أما بالنسبة للفرد مثلي فإن اليوم لا يعود يوما وإنما هو حاصل الفرق الزمني بين مسيرة الجمل والطائرة‏.‏
وفي عصر الكمبيوتر‏,‏ ومن بعده الإنترنت‏,‏ بات العمر لحظة كما يقال يتم فيها الإرسال والاستقبال‏,‏ ومنذ عام‏2003‏ كان علي في كل صيف ان عمل في بعض الأبحاث مع إلقاء محاضرات في معاهد أمريكية مختلفة‏,‏ ولم يحدث مرة أن تأخرت مقالاتي التي أرسلها إلي القاهرة ولندن‏,‏ وكان لدي من الوقت دائما ما يكفي لقراءة كل صحف القاهرة والاطلاع علي آخر شجاراتها‏.‏ وكان آخر عهدي مع التخلف‏,‏ أو هكذا ظننت‏,‏ عندما ذهبت إلي معهد كراون لدراسات الشرق الأوسط بجامعة برانديز عام‏2005,‏ وكانت معي بحوثي التي سوف ألقي منها محاضراتي موضوعة عليديسكيت‏,‏ وهو أشبه بأسطوانة صغيرة يتم ولوجها إلي داخل الكمبيوتر فإذا الأبحاث كلها متاحة للبحث والتنقيب‏.‏ ولكن سكرتيرة المعهد نظرت لي بدهشة شديدة لأنها لا تعرف ما أمسك به‏,‏ وأظنه آخر مكتشفات العلوم والتكنولوجيا‏,‏ وبعد سؤال آخرين من القدامي عثر لي علي جهاز يتقبل ذلك الديسكيت‏,‏ فقد كان عصر الفلاش ميموري قد ولد منذ وقت طويل‏!.‏
الطريف في الأمر أني ذهبت فورا لشراء أول فلاش لي ودفعت‏70‏ دولارا كاملة في حجم ذاكرة قدرها‏250‏ ميجابيت‏(‏ تذكر أول كمبيوتر حصلت عليه كانت ذاكرته‏80‏ ك بايت‏,‏ والميجا‏1000‏ ك بايت‏,‏ وما عليك إلا أن تحسب الآن حجم الذاكرة التي باتت بحوزتي‏).‏ وبعد شهور قليلة وصلت إلي اليابان فكان لدي أول فلاش بذاكرة قدرها جيجا كاملة‏,‏ والجيجا لمن لا يعلم ألف ميجا‏,‏ وعندما ذهبت إلي معهد كراون لآخر مرة في عام‏2008,‏ لاحظت أنه علي الرف الذي يوجد عليه أدوات الكتابة للباحثين توجد سلة ممتلئة عن آخرها بالفلاشات كلها بحجم جيجا أو عدة جيجاوات‏,‏ أما ما لدي الآن فإن حجم ذاكرته صار‏36‏ جيجا وهي تكفي لكي يكون فيها كل ما كتبته خلال الأربعين عاما الأخيرة‏,‏ ومعها مصادر ما كتبت‏,‏ وفوقهما بضعة أفلام وموسيقي من كل نوع‏.‏
التكنولوجيا وللمرة الألف قد تغيرت كثيرا‏,‏ وما حدث هو أن ستيفن جوبز‏-‏ مرة أخري‏-‏ بزغ علي الساحة من جديد مظفرا بمخترعات جديدة‏,‏ وبعد أن أسس شركة‏NEXT,‏ ومن بعدها شركة‏Pixar‏ كان قد خلق ثورة في بضعة عوالم في الوقت نفسه‏:‏ عالم الكمبيوتر عندما اخترع سلسلة جديدة أخف وزنا وأسرع اتصالا‏,‏ ولا يقربها فيروس ولا يصل إليها ميكروب‏;‏ وعالم الموسيقي عندما اخترع شيئا صغيرا يحتوي علي آلاف الأغاني واسمه‏iPod;‏ وعالم السينما حينما خلط ذلك كله ووضع فوقه أشياء أخري حتي جعل عالم الجرافيك كما لم تعرفه الدنيا من قبل‏.‏ و حدث كل ذلك بينما كان جوبز مصابا بسرطان البنكرياس ومن بعده الكبد‏.‏ وفي وقت الفراغ ربما‏,‏ وجد الرجل أنه لا بد من آلة بسيطة رقيقة رائعة اللون خفيفة الوزن تجمع ذلك كله‏,‏ فكانت الآيباد‏iPad.‏ وربما يحتاج الرجل منا مقالا آخر لأن حياته قد تكون ملهمة للكثيرين‏.‏ ولعل هناك من يتساءل الآن عما هو الدرس الذي نتعلمه من ذلك كله‏,‏ والإجابة هي أن العالم يتغير‏,‏ ومع التغير لا يصير الزمان والمكان كما كانا‏,‏ وهناك دائما صعوبات في تقبل التغيير‏,‏ وربما كان علينا دوما قياس ما نحن فيه‏,‏ ولكن ربما آن الأوان أن نطلع علي ما يجري في الدنيا‏,‏ أما ما يجري في مصر فهو باق في انتظار عودتنا إليه‏,‏ ولكن الأمر هو أنه ساعة العودة سوف تكون الحال مختلفة تماما .‏‏[email protected]
المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.