2 بيولوجيين وتوفى آخر.. أبرز المعلومات عن أبناء كريستيانو رونالدو وجورجينا    خماسي يتقاسم صدارة الهدافين.. تاريخ مواجهات الزمالك والمقاولون العرب قبل مباراة الدوري    الأمم المتحدة: أكثر من 100 طفل قضوا جوعا في غزة ودعوات عاجلة للتحرك    رئيس إسكان النواب: مستأجر الإيجار القديم مُلزم بدفع 250 جنيها بدءا من سبتمبر بقوة القانون    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على حي تل الهوا بمدينة غزة    ترامب يمدد الهدنة التجارية مع الصين لمدة 90 يوما    اليوم، إعلان نتيجة تنسيق المرحلة الثانية 2025 بالموقع الإلكتروني، اعرف الموعد    شاهد، كيف احتفى جنود إسرائيليون بقصف وقتل مدنيين فلسطينيين عزل في غزة (فيديو)    انخفاض أسعار الفراخ الأبيض في أسواق أسوان اليوم الثلاثاء 12 أغسطس 2025    فلكيًا.. موعد المولد النبوي الشريف 2025 في مصر و3 أيام إجازة رسمية للموظفين (تفاصيل)    نائبة وزيرة التضامن الاجتماعي تشهد إطلاق مبادرة "أمل جديد" للتمكين الاقتصادي    اليوم، إعلان النتيجة الرسمية لانتخابات مجلس الشيوخ والجدول الزمني لجولة الإعادة    نتيجة تنسيق المرحلة الثانية أدبي.. الموقع الرسمي بعد الاعتماد    الخارجية الروسية: نأمل في أن يساعد لقاء بوتين مع ترامب في تطبيع العلاقات    أنس الشريف وقريقع.. مما يخاف المحتل ؟    غارات واسعة النطاق في القطاع.. والأهداف الخفية بشأن خطة احتلال غزة (فيديو)    وسائل إعلام سورية: تحليق مروحي إسرائيلي في أجواء محافظة القنيطرة    سعر الذهب في مصر اليوم الثلاثاء 12-8-2025 مع بداية التعاملات الصباحية    سعر الريال السعودي أمام الجنيه اليوم الثلاثاء 12 أغسطس 2025 قبل استهلال التعاملات    "كلمته".. إعلامي يكشف حقيقة رحيل الشناوي إلى بيراميدز    وليد صلاح الدين: أرحب بعودة وسام أبوعلي للأهلي.. ومصلحة النادي فوق الجميع    مبلغ ضخم، كم سيدفع الهلال السعودي لمهاجمه ميتروفيتش لفسخ عقده؟    «زيزو رقم 3».. وليد صلاح الدين يختار أفضل ثلاثة لاعبين في الجولة الأولى للدوري    بطل بدرجة مهندس، من هو هيثم سمير بطل السباقات الدولي ضحية نجل خفير أرضه؟ (صور)    مصرع شخص تحت عجلات القطار في أسوان    لتنشيط الاستثمار، انطلاق المهرجان الصيفي الأول لجمصة 2025 (فيديو وصور)    4 أبراج «في الحب زي المغناطيس».. يجذبون المعجبين بسهولة وأحلامهم تتحول لواقع    من شرفة بالدقي إلى الزواج بعد 30 عاما.. محمد سعيد محفوظ: لأول مرة أجد نفسي بطلا في قصة عاطفية    "كيس نسكافيه" يضع الشامي في ورطة بعد ترويجه لأغنيته الجديدة "بتهون"    24 صورة لنجوم الفن بالعرض الخاص ل"درويش" على السجادة الحمراء    بالصور.. أحدث جلسة تصوير ل آمال ماهر في الساحل الشمالي    مواقيت الصلاة في أسوان اليوم الثلاثاء 12أغسطس 2025    تحارب الألم والتيبس.. مشروبات صيفية مفيدة لمرضى التهاب المفاصل    خلاف جيرة يتحول إلى مأساة.. شاب ينهي حياة آخر طعنًا بكفر شكر    موعد مباراة سيراميكا كيلوباترا وزد بالدوري والقنوات الناقلة    حزب شعب مصر: توجيهات الرئيس بدعم الكوادر الشبابية الإعلامية يؤكد حرصه على مستقبل الإعلام    التحفظ على أموال وممتلكات البلوجر محمد عبدالعاطي    وكيل وزارة الصحة بالإسكندرية يعقد اجتماعاً موسعاً لمتابعة الأداء وتحسين الخدمات الصحية    أبرزها الماء والقهوة.. مسببات حساسية لا تتوقعها    "بلومبرغ": البيت الأبيض يدرس 3 مرشحين رئيسيين لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي    19 عامًا على رحيل أحمد مستجير «أبوالهندسة الوراثية»    أصالة تتوهج بالعلمين الجديدة خلال ساعتين ونصف من الغناء المتواصل    د. آلاء برانية تكتب: الوعى الزائف.. مخاطر الشائعات على الثقة بين الدولة والمجتمع المصري    محكمة الأسرة ببني سويف تقضي بخلع زوجة: «شتمني أمام زملائي في عملي»    رئيس «الخدمات البيطرية»: هذه خطط السيطرة علي تكاثر كلاب الشوارع    نجم الأهلي السابق: صفقات الزمالك الجديدة «فرز تاني».. وزيزو لا يستحق راتبه مع الأحمر    استغلي موسمه.. طريقة تصنيع عصير عنب طبيعي منعش وصحي في دقائق    «مشروب المقاهي الأكثر طلبًا».. حضري «الزبادي خلاط» في المنزل وتمتعي بمذاق منعش    انتشال سيارة سقطت بالترعة الإبراهيمية بطهطا.. وجهود للبحث عن مستقليها.. فيديو    كيفية شراء سيارة ملاكي من مزاد علني يوم 14 أغسطس    حدث بالفن | حقيقة لقاء محمد رمضان ولارا ترامب وجورجينا توافق على الزواج من رونالدو    أخبار 24 ساعة.. 271 ألفا و980 طالبا تقدموا برغباتهم على موقع التنسيق الإلكترونى    إطلاق منظومة التقاضى عن بعد فى القضايا الجنائية بمحكمة شرق الإسكندرية.. اليوم    أجمل عبارات تهنئة بالمولد النبوي الشريف للأهل والأصدقاء    أنا مريضة ينفع آخد فلوس من وراء أهلي؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    هل يشعر الموتى بالأحياء؟.. أمين الفتوى يجيب    محافظ الأقصر يبحث مع وفد الصحة رفع كفاءة الوحدات الصحية واستكمال المشروعات الطبية بالمحافظة    أمين الفتوى: الحلال ينير العقل ويبارك الحياة والحرام يفسد المعنى قبل المادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من القاهرة
الآيباد ipad....‏ وأنا
نشر في الأهرام اليومي يوم 24 - 04 - 2010

ليس سهلا علي الكاتب السياسي أن يترك موضوعاته المفضلة علي امتداد الساحة الوطنية من أول الإصلاح السياسي‏,‏ والتغيير في السلطة والمجتمع‏, حتي تأثيرات إنشاء طريق الكريمات بني سويف الجديد الذي قيل إنه سوف يجعل المدينة واحدة من ضواحي القاهرة‏,‏ كما فعل طريق العين السخنة الذي جعل العاصمة المصرية مدينة ساحلية‏.‏ ولكن حكاية ما جري كانت كافية لكي تجعل حكايات كثيرة أخري قابلة للانتظار‏,‏ فالقصة ليست عن علاقة فرد مع التكنولوجيا الجديدة‏,‏ ولكن ربما كانت قصة مجتمع بأسره‏,‏ وما عليك إلا أن تتصفح أيا من مذكرات القرن التاسع عشر لكي تري ماذا فعلت السكك الحديدية بمصر‏,‏ أو تتابع ما حدث في القرن العشرين حتي تجد نفسك في مواجهة الكهرباء فورا‏.‏
وربما بات الموضوع الآن هو ثورة الاتصالات الخرافية التي لم تبدأ مع وصول جهاز الآيباد‏iPad‏ إلي مكتبي ولكنه كان آخر فصولها‏,‏ وهو الفصل الذي بدأ بدخولي مكتب رئيس مجلس إدارة الأهرام لكي أجده دون جهاز كمبيوتر‏,‏ وعندها اكتشفت أنني أول من حاز علي هذا الشرف من بين أجيال كثيرة من المبدعين‏.‏
ولعل أول الفصول بدأ في واحد من أيام خريف عام‏1976‏ عندما كان علي الدارس للدكتوراه في جامعة شمال إلينوي أن يختار مادتين لا بد منهما باعتبارهما أدوات للبحث كان من بينها الإحصاء والرياضيات والمنطق العلمي‏,‏ ولما كنت قد درست بعضا من الإحصاء في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية فقد اخترتها‏,‏ بينما كانت الرياضيات من الثقل علي ذكائي بحيث لم يبق منها إلا الدرس الأخير‏.‏ ولكن الرحلة مع أدوات البحث لم تكن سهلة أبدا‏,‏ وكان من بين الصعوبات أن ظهر لأول مرة ما عرف بجهاز الكمبيوتر الذي سمعنا عنه من قبل باعتباره يحل كل مشكلات الكون‏,‏ ولكن ما اكتشفته أنه لا يستطيع حل أي من مشكلاتي‏.‏ فقد كان يشبه نوعا من الآلة الكاتبة الكبيرة‏,‏ ولكنها لا تكتب وإنما تقوم بتثقيب كروت من نوعية خاصة‏,‏ وهذه يجري وضعها في جهاز يشبه آلة عد النقود‏,‏ وبعد أن تجري هذه العملية تكون طابعة قد استوعبت المادة المثقوبة لكي تطبع النتائج علي ورق عريض‏.‏ المهم أنه لكي يتم تفعيل هذه الآلة الجهنمية كان لا بد أن تعرف فنون استخدام الآلة الكاتبة‏,‏ وعندما عرف أستاذي في ذلك الوقت أنني لا أعرف‏,‏ قال لي‏:‏ ربما تكون ماهرا في التحليل السياسي‏,‏ ولكنك لم تصل إلي الثورة الصناعية الأولي بعد‏!.‏ وساعتها تذكرت نقاشات وحوارات كثيرة كانت تجري بالقاهرة في عنفوان هائل من قبل قبيلة من المفكرين لم يلمس أي من أصابعهم تلك الثورة أيضا برغم أنهم جميعا كانوا يتحدثون عن حركة التاريخ‏.‏
وبالطبع قمت بحل المشكلة من خلال الإصرار والعمل والتقليد للآخرين‏,‏ وكانت معضلة المعضلات هي أن خطأ واحدا‏,‏ في ثقب واحد‏,‏ كان كافيا لفساد المسألة كلها مهما كانت الإحصاءات دقيقة والأرقام موثوقا منها‏,‏ ولا بد في كل مرة أن تبدأ المسألة من أولها‏.‏ وكان ذلك ما فعلته مرارا وتكرارا‏,‏ ولعل ذلك مع الدعوات القادمة من المحروسة كان كافيا ساعة الامتحان‏.‏ وبرغم النجاح فقد صار في الأمر عقدة أظنها تأتي للمجتمعات أيضا ساعة اتصالها بتكنولوجيات معقدة‏,‏ ومع ذلك لم أكن جاهزا ساعة أن جاءت التكنولوجيا السهلة في الاستخدام‏.‏ وباختصار كان ستيف جوبز قد اخترع جهاز الكمبيوتر الشخصي عام‏1976‏ ومع أول الثمانينيات ظهرت أول أجيال إنتاجه وهكذا قررت أن تكون رسالتي للدكتوراه إدارة الولايات المتحدة لأزمة أكتوبر‏1973‏ في الشرق الأوسط مكتوبة أو مطبوعة إذا شئت علي هذا الجهاز الذي كان أول علامات ميلاد الثورة الصناعية الثالثة حتي لو لم أكن قد عبرت الثورة الأولي بعد‏.‏
وهكذا انتهيت من مناقشة رسالة الدكتوراه يوم‏27‏ أغسطس‏1982,‏ وكنت في طريقي إلي القاهرة يوم الثامن من سبتمبر‏,‏ وعشت في انتظار وصول رسالة الدكتوراه بعد أن تكون السيدة التي تولت كتابتها علي الكمبيوتر قد أرسلتها عن طريق البريد السريع‏.‏ وبالفعل وصلتني رسالة من قرية البضائع بمطار القاهرة الدولي لكي تخبرني عن وصول صندوق يخصني‏,‏ ولكن الحصول علي الصندوق لم يكن سهلا بالمرة حيث كنت أتحدث عن رسالتي للدكتوراه وهي مادة علمية لا تفرض عليها جمارك والموظفون لا يجدونها في المكان المخصص للمادة العلمية‏.‏ وبعد مشقة وعدة زيارات ظهرت المسألة جلية ساطعة‏,‏ فما كان مادة علمية لم يكن حزمة من الورق‏,‏ وإنما كان مجموعة من الأسطوانات المرنة التي رأت جماعتنا في المطار أن مكانها هو هيئة الرقابة علي المصنفات الفنية التي عليها حماية الوطن من الأغنيات الخليعة التي قد تفسد أخلاق المجتمع‏.‏ وهكذا أصبحت أمام مشكلات عظمي كان أقلها أن الرسالة لم تعد مصنفة كمادة علمية‏,‏ وإنما كمادة فنية أي من الفن وجب دفع الضرائب عليها‏;‏ ولكن المشكلة الأعظم كانت أنه لا بد من اختبار هذه المادة بالاستماع إليها واكتشاف ما هو خليع فيها وهو ما يعني تدمير رسالتي الجامعية التي لم تكن أسطواناتها تتحمل تلك النوعية من الجرامافونات التي تقوم إبرة حساسة فيها بترجمة خطوط أسطوانات الغناء إلي ألحان شجية مسموعة‏.‏
والبشري هي أنه تم إنقاذ الرسالة‏,‏ أو الأسطوانات التي كتبت عليها‏,‏ أما العزاء فكان لأن ذلك لم يعد للأسف ينفع كثيرا‏,‏ لأن الجهاز الذي كتبت أو طبعت عليه لم يعد له وجود في الكون كله‏.‏ وربما كان ذلك هو لعنة الثورة الصناعية الثالثة حيث لا تنتهي من اختراع حتي تجد آخر قد ألغاه فورا‏,‏ وفي المجتمعات التي لا تتغير كثيرا مثل مجتمعاتنا فإن كل شيء يبدو غريبا ومدهشا تماما في كل مرة يجري فيها مثل هذا التطور‏.‏ وكان ذلك هو ما حدث لي عندما أصبحت زميلا في مؤسسة بروكينجز في واشنطن العاصمة بالولايات المتحدة علي مدي عام ما بين‏1987‏ و‏1988‏ وهناك كان لي مكتبي معدا بجهاز جديد للكمبيوتر يختلف تماما عن الجهاز الذي شاهدته قبل أعوام‏,‏ ولما كنت لم أعبر بعد الثورة الصناعية الأولي فقد اعترتني الصدمة بالتطورات الجارية في الثورة الجديدة حتي لو كنت قد انتهيت توا من نشر كتابي عن العرب ومستقبل النظام العالمي الذي تحدثت فيه كثيرا موضحا كيف أن هذه الثورة سوف تقلب النظام العالمي كله وهو ما حدث فعلا بعد سنوات قليلة‏.‏
ولأول مرة بدا لي واضحا تماما أن هناك فجوة سيكولوجية مع قضية التقدم بصفة عامة والتكنولوجي بصفة خاصة‏,‏ وعندما اعتبر بعض من أجدادنا أن السكك الحديدية كانت نوعا من الأحصنة المصنوعة من الصلب فقد كانوا يعيشون في هذه الفجوة التي لا تفسر فقط الماضي بل تفسر الحاضر أيضا‏.‏ فالتقدم لدي النخبة يبدو نوعا من الفانتازيا أما بالنسبة للعامة فهو نوع من العفاريت‏(‏ أو الأحصنة‏)‏ غير المأمونة‏,‏ وكان الحل جاهزا دائما‏,‏ وهو أن هناك نوعا من الخصوصية التي تحمي الكرامة وتجعل الحديث عن الريادة والأدوار الإقليمية حقيقة ممكنة‏.‏ وعلي أي الأحوال فقد مر عقد الثمانينيات دون لحاق بأي من الثورات الصناعية‏,‏ ولكن مع عام‏1990‏ كان مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام قد حصل علي أول كمبيوتر شخصي‏,‏ وكان الدكتور حسن أبو طالب مدير معهد الأهرام الإقليمي للصحافة حاليا هو أول من عرف كيفية استخدامه‏.‏ وسيذكر التاريخ أنه علي هذا الجهاز جرت كتابة أول تقدير موقف حول أزمة العراق والكويت بعد ساعات قليلة من غزو صدام حسين للكويت‏.‏ ولا أدري شخصيا حتي الآن ما الذي جعل الأهرام تتأخر حتي ذلك الوقت في تحقيق قفزة تكنولوجية ضخمة منذ عصر اختراع القلم وهي التي عرفت الكمبيوتر الرئيسي منذ عام‏1968;‏ وما عرفت بالطبع سببا لغياب التراكم التكنولوجي‏,‏ ربما لأننا استوردنا الكمبيوتر الأول‏,‏ ومر عقدان بعدها حتي استوردنا الثاني‏,‏ وبين هذا وذاك لم يكن هناك نصيب وحظ في المعرفة المنتجة لأيهما‏.‏
ولكن المعجزة حدثت‏,‏ وجري الانتقال بين الثورات الصناعية المختلفة ساعة شراء أول جهاز كمبيوتر أبل ماكنتوش‏2‏ الذي قيل عنه إنه أحدث ما عرفه العالم من تكنولوجيا‏.‏ وكان ذلك في يوم من أيام ابريل عام‏1993‏ عندما أقنعني زميل بالشراء والتعلم‏,‏ وساعتها كنت أعمل مستشارا سياسيا في الديوان الأميري لدولة قطر‏,‏ ولما كان أمير البلاد قد جري انقلاب فعلي‏(‏ الانقلاب الرسمي حدث بعد ذلك في عام‏1995)‏ عليه فلم يعد هو أو وزير الديوان في حاجة لمستشار سياسي‏,‏ وهكذا بات لدينا وقت للفراغ كان كافيا بالنسبة لي لدخول الثورة الصناعية الثالثة حيث كتبت أول مقالاتي‏,‏ وكان لصحيفة الحياة اللندنية بعنوان اليتامي‏,‏ ومن ساعتها لم أكتب شيئا بالقلم مرة أخري‏.‏
عدت إلي الأهرام من التغريبة الخليجية لكي أطالب بدخول مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية إلي عصر الكمبيوتر مبتدئا بالحصول علي أحدث الطرازات‏,‏ أي أن يكون مماثلا لما كان لدي وأستخدمه بالفعل بالمنزل‏.‏ وكان الأستاذ إبراهيم نافع رئيس مجلس الإدارة ورئيس تحرير الأهرام كريما عندما جعلني أحصل عليه‏,‏ وعندما التقيت بالمهندس تيمور عبد الحسيب الذي كان مشرفا علي هذا النوع من العمل‏,‏ أخبرني بدهشته الشديدة أنني اخترت جهازا متخلفا بهذه الطريقة حيث تعمر الأسواق بما هو أفضل وأكثر تقدما‏.‏
كان عالم الكمبيوتر قد تغير كثيرا‏,‏ فبعد الثورة التي ولدها ستيفن جوبز‏,‏ واكتساحه الأسواق بآلته العجيبة‏,‏ أفاقت شركة‏IBM,‏ ومن بعدها شركات أخري‏,‏ وظهرت شركة مايكروسوفت والعبقري الخاص بها بيل جيتس بمحركها ويندوز‏Windows,‏ وجري السباق رهيبا حتي إن ستيفن جوبز نفسه جري طرده من شركته أبل نظرا لأنه بات يكبد الشركة خسائر فادحة‏.‏ وعندما أصبحت مديرا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية أدركت التكلفة الباهظة للتغييرات التكنولوجية المتتالية‏,‏ وخلال خمسة عشر عاما كان علينا تغيير الأجهزة والبرامج كل ثلاثة أعوام تقريبا مع تأكدنا من التخلف في كل مرة‏.‏ ومع ذلك وبشكل شخصي فقد سابقت الزمن لكي أظل في قلب الثورة‏,‏ ولم يكن السبب ولعا تكنولوجيا بقدر ما كان ولعا بالتغيير الذي يجري في الزمان والمكان‏.‏
والمسألة ببساطة هي أن السيارة فعلت ذلك من قبل‏,‏ وتعالوا نتخيل الوقت والجهد الذي يستغرقه الذهاب من القاهرة إلي أسوان مشيا علي الأقدام أو علي ظهر جمل أو حتي علي صهوة حصان عربي أصيل‏.‏ وبعد ذلك تعالوا نتخيله جريا بالسيارة أو سفرا بالطائرة‏,‏ هنا فإن قيمة الزمن تغيرت تماما‏,‏ والمسافة أصبحت أقصر بكثير‏,‏ وساعتها فإن وطنا مثل مصر لا يعود صحراء مترامية الأطراف‏,‏ وإنما يمكن لم أطرافه كلها بشبكة من وسائل الاتصال والمواصلات‏,‏ وفي ذلك يصغر البلد من حيث المساحة ولكنه يعلو كثيرا من حيث القيمة المادية والمعنوية بسبب المعرفة الأكثر قربا‏;‏ أما بالنسبة للفرد مثلي فإن اليوم لا يعود يوما وإنما هو حاصل الفرق الزمني بين مسيرة الجمل والطائرة‏.‏
وفي عصر الكمبيوتر‏,‏ ومن بعده الإنترنت‏,‏ بات العمر لحظة كما يقال يتم فيها الإرسال والاستقبال‏,‏ ومنذ عام‏2003‏ كان علي في كل صيف ان عمل في بعض الأبحاث مع إلقاء محاضرات في معاهد أمريكية مختلفة‏,‏ ولم يحدث مرة أن تأخرت مقالاتي التي أرسلها إلي القاهرة ولندن‏,‏ وكان لدي من الوقت دائما ما يكفي لقراءة كل صحف القاهرة والاطلاع علي آخر شجاراتها‏.‏ وكان آخر عهدي مع التخلف‏,‏ أو هكذا ظننت‏,‏ عندما ذهبت إلي معهد كراون لدراسات الشرق الأوسط بجامعة برانديز عام‏2005,‏ وكانت معي بحوثي التي سوف ألقي منها محاضراتي موضوعة عليديسكيت‏,‏ وهو أشبه بأسطوانة صغيرة يتم ولوجها إلي داخل الكمبيوتر فإذا الأبحاث كلها متاحة للبحث والتنقيب‏.‏ ولكن سكرتيرة المعهد نظرت لي بدهشة شديدة لأنها لا تعرف ما أمسك به‏,‏ وأظنه آخر مكتشفات العلوم والتكنولوجيا‏,‏ وبعد سؤال آخرين من القدامي عثر لي علي جهاز يتقبل ذلك الديسكيت‏,‏ فقد كان عصر الفلاش ميموري قد ولد منذ وقت طويل‏!.‏
الطريف في الأمر أني ذهبت فورا لشراء أول فلاش لي ودفعت‏70‏ دولارا كاملة في حجم ذاكرة قدرها‏250‏ ميجابيت‏(‏ تذكر أول كمبيوتر حصلت عليه كانت ذاكرته‏80‏ ك بايت‏,‏ والميجا‏1000‏ ك بايت‏,‏ وما عليك إلا أن تحسب الآن حجم الذاكرة التي باتت بحوزتي‏).‏ وبعد شهور قليلة وصلت إلي اليابان فكان لدي أول فلاش بذاكرة قدرها جيجا كاملة‏,‏ والجيجا لمن لا يعلم ألف ميجا‏,‏ وعندما ذهبت إلي معهد كراون لآخر مرة في عام‏2008,‏ لاحظت أنه علي الرف الذي يوجد عليه أدوات الكتابة للباحثين توجد سلة ممتلئة عن آخرها بالفلاشات كلها بحجم جيجا أو عدة جيجاوات‏,‏ أما ما لدي الآن فإن حجم ذاكرته صار‏36‏ جيجا وهي تكفي لكي يكون فيها كل ما كتبته خلال الأربعين عاما الأخيرة‏,‏ ومعها مصادر ما كتبت‏,‏ وفوقهما بضعة أفلام وموسيقي من كل نوع‏.‏
التكنولوجيا وللمرة الألف قد تغيرت كثيرا‏,‏ وما حدث هو أن ستيفن جوبز‏-‏ مرة أخري‏-‏ بزغ علي الساحة من جديد مظفرا بمخترعات جديدة‏,‏ وبعد أن أسس شركة‏NEXT,‏ ومن بعدها شركة‏Pixar‏ كان قد خلق ثورة في بضعة عوالم في الوقت نفسه‏:‏ عالم الكمبيوتر عندما اخترع سلسلة جديدة أخف وزنا وأسرع اتصالا‏,‏ ولا يقربها فيروس ولا يصل إليها ميكروب‏;‏ وعالم الموسيقي عندما اخترع شيئا صغيرا يحتوي علي آلاف الأغاني واسمه‏iPod;‏ وعالم السينما حينما خلط ذلك كله ووضع فوقه أشياء أخري حتي جعل عالم الجرافيك كما لم تعرفه الدنيا من قبل‏.‏ و حدث كل ذلك بينما كان جوبز مصابا بسرطان البنكرياس ومن بعده الكبد‏.‏ وفي وقت الفراغ ربما‏,‏ وجد الرجل أنه لا بد من آلة بسيطة رقيقة رائعة اللون خفيفة الوزن تجمع ذلك كله‏,‏ فكانت الآيباد‏iPad.‏ وربما يحتاج الرجل منا مقالا آخر لأن حياته قد تكون ملهمة للكثيرين‏.‏ ولعل هناك من يتساءل الآن عما هو الدرس الذي نتعلمه من ذلك كله‏,‏ والإجابة هي أن العالم يتغير‏,‏ ومع التغير لا يصير الزمان والمكان كما كانا‏,‏ وهناك دائما صعوبات في تقبل التغيير‏,‏ وربما كان علينا دوما قياس ما نحن فيه‏,‏ ولكن ربما آن الأوان أن نطلع علي ما يجري في الدنيا‏,‏ أما ما يجري في مصر فهو باق في انتظار عودتنا إليه‏,‏ ولكن الأمر هو أنه ساعة العودة سوف تكون الحال مختلفة تماما .‏‏[email protected]
المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.