أعتبر نفسى من المحظوظات، ما تمنيت شيئا فى حياتى إلا وتحقق، قد يتأخر، لكن رسائل من ربى تصلنى وتطمئننى أن أملى سيتحقق فى الوقت الذى يقدره، وكنت فى بداية حياتى الصحفية قد تمنيت أن أكون «مراسلاً حربياً»، وكتبت عن ذلك مرة وحلمت به مرات داخل نفسى وأعلنته أمام زملاء كثيرين، تصور بعضهم أننى «اتمنظر» وأنه كلام لن يتبعه عمل إذا تحققت الأمنية، فقد كانوا يروننى زوجة وأما تقليدية ترتاح للعيش فى كنف البيت وسكينة العيلة. ومع الأيام تخيلت أننى مثلما يرانى الزملاء، مجرد كائن عائلى تقليدى أبعد ما يكون عن الأمنية القديمة، وقد دعم هذا التصور سؤال عابر أطلقته فى وجه زميل كان ينتقد فساد رؤساء تحرير بعض المؤسسات الصحفية الكبرى، فقلت له: وماذا عنك لو أصبحت رئيس تحرير؟ فقال بعفوية: ربما أصبح ألعن من الآخرين.. لا أستطيع أن أجيب بوضوح وجزم لأننى لم أختبر نفسى فى ذلك الوضع. مساء ذلك اليوم ربطت بين أمنيتى وبين إجابة الزميل، وقلت ربما أنا أيضا لم أختبر، وما أتمناه وأردده طوال الوقت سأتنازل عنه لو تحقق، وفى الأسبوع الماضى فقط جاءت لحظة التيقن.. لحظة الاختبار، فقد تلقيت دعوة من اللجنة المنظمة لسفينة مريم، التى تضم نساء من مختلف الجنسيات والأديان اللاتى اتفقن على مواجهة تهديدات الجيش الإسرائيلى والإبحار بسفينة المساعدات نحو ميناء غزة لكسر الحصار عن القطاع المحاصر منذ سنوات. الدعوة وصلتنى من الصديقة إيمان سعد، زوجة أحد زعماء جنوب لبنان، وعرفت منها أن السفينة النسائية تعطلت عن الإبحار منذ يونيو الماضى، لأسباب تتعلق بجدية التهديدات الإسرائيلية، التى ظهرت بوضوح فى تصريحات وزير الجيش الإسرائيلى باراك الذى أصدر بيانا صريحا بذلك، واعتبر إبحارها استفزازا من الجانب اللبنانى، وأخطر العالم أنه يحتفظ بحق الرد على هذه الاستفزازات، لم التفت لكل ذلك، وأعلنت موافقتى وبدأت التحضير للسفر لألحق بموعد الإبحار من طرابلس صباح الأحد 22 أغسطس، فى بيتى حدثت حالة من الفزع تنوعت بين نصائح عاقلة من الكبار ودموع وتوسلات من الصغار، لكننى لم أتردد لحظة فى المهمة الإنسانية مهما كانت درجة الخطورة والمخاطرة، شعرت بأن رسالة مريم جاءت لتحسم شكوكى القديمة، وتمنحنى فرصة لتحقيق الحلم القديم الذى موهته نظرة الآخرين، وظروف الحياة. لم يكن أمامى سوى ساعات جهزت فيها حقيبة ظهر خفيفة وضعت فيها القليل من الضروريات، كانت الاتصالات مع اللجنة المنظمة على مدار الساعة، فالوقت قصير، والوضع متوتر، حتى إننى لم أحصل على تأشيرة السفر من القاهرة، وأخبرونى أنهم سينتظروننى ومعهم «الفيزا» فى مطار بيروت، وأعادوا التأكيد على نوعية الأمتعة، لا مشغولات ذهبية أو مجوهرات أو نقود كثيرة، بنطلون «باجى» بجيوب كثيرة، سويتر ثقيل للحماية من برد ورطوبة البحر ليلا.. ولا تنسى أدويتك، شعرت وأنا أجهز الحقيبة الصغيرة أننى جندى كوماندوز، فأنا لم أسافر فى حياتى بمثل هذه الطريقة، لكننى كنت أشعر بسكينة داخلية، وإحساس أننى ذاهبة لأداء واجب لا يمكن الاعتذار عنه، وفجأة تبدلت الأحوال وجاءت الرياح بما لم تشته سفينة مريم، حيث منعت السلطات اللبنانية منظمى الرحلة من عقد مؤتمر صحفى فى الميناء، وأعلن وزير النقل غازى العريضى عن عدم إبحار سفينة مريم لأن ميناء قبرص رفض منحها تصريحا بالإبحار، والقانون اللبنانى يمنع إبحار أى سفينة لميناء يقع تحت سيطرة إسرائيل، وتم إرجاء الرحلة. نظرت لحقيبتى، وقلت «قدر الله ما شاء فعل»، ولحظتها شعرت بأننى عائدة من السفر، شعرت بأننى أديت الواجب، ما أردته تحقق، الرسالة وصلت.. وتيقنت أننى «قد أحلامى».. وهذا هو المهم.