«رمضان جانا وفرحنا معاه» بصوت مُترّع بالشجون يغنى عبدالمطلب. صوت برائحة البخور والأزقّة القديمة، بنكهة العرقسوس والتمر هندى والبن المحوج، بطعم الماء المزهر البارد من قلة فخارية تسكبه على ذقنك وأنت تشرب فتهتف من أعماقك: الحمد لله. بصوت يُلخّص مصر نفسها يغنى تلك الأغنية التى صارت من معالم رمضان. أهلا رمضان... زمان، كنت أستقبله بالدهشة، بعواطف مُضخّمة جامحة تناسب طفل الخامسة الذى كنته. يشترى لى أبى فانوسا بهيجا بزجاج ملون وشمعة حمراء، والشرفة المتسعة - بحجم الكون بأسره - يشاركنى فيها اللهو أشقائى الكبار. عتمة الغروب والدرب الخالى من البشر بعد الإفطار، ونسائم الخريف الباردة والصمت السائد توطئة للموسيقى الأسطورية المميزة لألف ليلة وليلة. تعد أمى طعام السحور وأنا أتبعها كظلها. ترتدى ثوبا حريريا هفهافا، بينما ألهو على البلاط الساقع بدحرجة زجاجة ملونة، ينقطع التيار الكهربائى فتوقد شموعا ترسم ظلالا عملاقة على الحيطان ألاحظها بحس الأطفال المُضخّم. ولا أدرى كل مرة متى انزلقت إلى عالم النوم الساحر، عالما أن أمى ستحملنى إلى فراشى البارد. وغدا يوم جديد.. ويا رمضان، أصومك الآن لأنى كبرت جدا. عمرى عشرة أعوام لو كنت تلاحظ هذا وهو شىء ليس هينا على الإطلاق، حتى وإن كان أبى يزعم أننى مريض بالحمى ويجب أن أُفطر. القرص الأبيض أقاوم ابتلاعه فأنا صائم صائم. أبتلعه مرغما ومُصمّما على إكمال الصيام، فيدللنى أبى بكلمته الشهيرة (يا حلوة باباها) التى كانت تجلب لى غيرة إخوتى. أحب حنانه بقدر ما أضيق به، خصوصا وأنا أعلم ما سيفعله: سيلف صدرى بالجرائد. تقريبا لا توجد طريقة غيرها للشفاء من الكحة على ما أعتقد، والعجيب أن هذه الحيلة لا تفشل أبدا. رمضان ملىء بالمسرات، خصوصا وأبى يجيد صنع العرقسوس وصينية الفول باللحم المفروم. لم يزل صوت عبدالمطلب يصافح أذنى «أهلا رمضان» والشهر الفضيل يمضى مسرعا كجميع الأشياء الجميلة. وتأتى بهجة العيد والفرحة المُضخّمة والأيام السعيدة. يلتئم شمل الأسرة حول التليفزيون وأجلس وحدى فى الشرفة المتسعة أستمع لألحان فيروز، التى تملأ شرائطها غرفتى. أشياء كثيرة تغيرت فى طالب الطب العاشق. ذلك الأرق الذى أكابده كل ليلة. رائحة المنوّم التى تفوح من كل كتبى. الروايات الكثيرة المتناثرة والتى تفككت من كثرة القراءة. قصاصات ورق كثيرة لأشعار كتبتها فى المحاضرات لأتغلب على الملل. ليتهم يشرحون سر القلب بالتفصيل لأفهم كيف يستطيع كائن فى حجم الكف أن يتسع لحب فى رحابة السماء! الليالى تتعاقب، والعيد لم يعد له نفس الفرحة القديمة، إذ إن الحياة جميلة وكل أيامنا أعياد. منذ أن بدأت العمل كطبيب مقيم، صارت أيامى سوداء. أستيقظ مبكرا للمرور على المرضى. القسم بالكامل يعتمد علىّ ومطلوب منى أن ألاطف السباك وأنافق الكهربائى وأكسب ود النجار. هذه مهام الطبيب المقيم، وإذا لم أفعل فسوف يعتبروننى المسؤول عن الإهمال والتسيّب وحرب الهكسوس بل وحرب الخليج التى نشبت منذ أيام. أعود محطما فى الثالثة عصرا، لكنى أعجز عن النوم من جفاف حلقى والإجهاد الفظيع. بمجرد الإفطار، أهرع إلى المستشفى من جديد، تاركا ليالى الحلمية وقلبى يتمزق. سليم البدرى يشاكس سليمان غانم. وقمر السماحى محتارة، أما على البدرى فحكايته مع زهرة حكاية!! الحب لا مكان له فى عالم من الإرهاق وقلة النوم والاكتئاب. صوت عبدالمطلب انطمس من عالمى كأنه ما كان. من فضلكم، لا تذكرونى بمصر فلست فى قارة أفريقيا من الأساس. السعودية التى أعمل بها تقع جغرافيا لا فى قارة أخرى فحسب، بل فى مجرة أخرى. أحن لمصر حنينا يهشم الضلوع ويخنق الروح. الآن، أكتشف كم أحب هذا البلد الذى كنت ألعنه وأريد الهروب منه. أكتشف كم أحنّ إلى العنبر المجانى ومريضاتى البائسات من أعماق الريف، وتلك السحن الطيبة لعمال القسم. كنت بحاجة إلى أن أبتعد لأرى. كنت بحاجة إلى الصمت لأستمع إلى لغة الذكريات. أفتقد أشياء كثيرة: صوت المؤذن وهو يرفع الأذان على الطريقة المصرية المغموسة فى سماحة الريف المصرى، العمامة الأزهرية الوقورة، رغم كونها حمراء، أشتاق لوجه أمى الطيب المبتسم، دنيا من الحنان الفطرى والحب والاتزان. أبى؟ البقية فى حياتكم. لن أسمع أبدا كلمة التدليل الحلوة «يا حلوة باباها» إلا فى رواق الذكريات. صوت عبدالمطلب يتضخم فى داخلى حتى لا أسمع سواه: رمضان جانا، وجاءت معه ذكريات مصر، التى لا تفارقنا وإن فارقناها. [email protected]