بثوبه الكنسى الفضفاض ذى اللون البنى، يجلس الأخ مؤمن سمير يوسف، 27 عاما الشهير ب «الأخ بيو» فى إحدى الحجرات المتفرعة من رواق طويل داخل كنيسة سان جوزيف بمنطقة وسط البلد، على يمينه مكتبة صغيرة تحتوى على عدد من الكتب الكنسية، وفى يده اليسرى خاتم أشبه ب «دبلة» الزواج، لكنه سرعان ما ينفى الفكرة قائلا: «الدبلة دى عبارة عن سبحة للعبادة، وتعنى أن الراهب يتزوج بحياة أخرى غير حياة الدنيا». الحديث عن «الدبلة» والزواج، جعلا الأخ بيو يعبر عن رأيه صراحة فى القضية الأكثر إثارة للجدل على الساحة الآن وهى حكم المحكمة بإمكانية زواج المطلقين الأقباط وما ترتب عليه من حكم بنقضه، ليصفه -الحكم الأول- بأنه «خطوة حلوة»، معبرا عن إعجابه بهذه الخطوة التى تنم عن أن الدولة تتعامل مع مشكلات المواطن بغض النظر عن هويته الدينية، ويضيف «بيو»: «الدولة فى القرار ده فكرت فى الشخص على إنه مواطن، لكن لازم شعب الكنيسة يفضل جوه الكنيسة، والزواج سر من أسرار الكنيسة، وبرغم إن الخطوة حلوة لكن فيها عدم وعى بطبيعة قوانين الكنيسة»، وأضاف «بيو»: «الزواج المدنى زى اللى بيحصل بره ما يعتبرش جواز، لكنى مش بصدد إنى أحكم عليه بأنه زنى». يعترف «الأخ بيو» الذى بدأ طريق الرهبنة بمجرد حصوله على بكالوريوس كلية التربية قسم التعليم الأساسى بوجود عدد من المشكلات فى مسألة زواج الأقباط، ويعتقد أن هناك عدداً من الأفلام المصرية استطاعت أن تعبر عن تلك المشكلة بشكل واقعى – فخلافا لمعظم الآراء القبطية- يرى «بيو» أن فيلمى «بحب السيما» و«واحد – صفر»، معبرين بشكل كبير عن الواقع المسيحى: «مفيش مانع من طرح مشاكل الزواج والطلاق عند المسيحيين للرأى العام من خلال أفلام، (واحد- صفر) فيلم كويس، و(بحب السيما) بيناقش واقع، وبعض المتزمتين من المسلمين أو المسيحيين بيحولوا البيت لجحيم، وبيبقى عندهم هوس الله اللى بيعاقب، ويؤدى ذلك إلى خلق علاقة مشوهة بالله». لم تضايق «الأخ بيو» كثيرا المشاهد التى اعتبرها البعض متجاوزة فى العلاقات بين أبطال فيلم «بحب السيما»، بل رآها تخدم مضمونه، وهو ما جعله يتساءل مستنكرا: «يعنى هو مفيش 1% من الأسر المسيحية بيحصل من أحد أفرادها خيانة؟ ده وارد جدا لدى أصحاب كل الديانات، ومفيش مشكلة فى مناقشة الموضوع». انعزاله النسبى عن حياته كشاب واختياره طريق الرهبنة وهو لايزال فى الثانية والعشرين من عمره، لم يمنعه – فى ظل الكنيسة – من مشاهدة أحدث أفلام السينما، كجزء من برنامج الكنيسة: «فى برنامج الكنيسة عندنا كل يوم حوالى ساعتين وقت جماعى، بقضيه مع الرهبان فى الخروج فى أماكن مثل حديقة الأزهر وجنينة الجيزة، بالإضافة إلى دخول السينما، آخر فيلم رحته كان (الديلر) وهو فيلم مش بطال لكن ينقصه الهدف». الاحترام الكبير الذى يجلبه الثوب الكنسى للأخ بيو داخل الكنيسة، يختلف كثيرا عما يتلقاه إذا خرج به فى الشارع، يعدد بيو مظاهر «الاضطهاد» – على حد تعبيره – التى يتعرض لها الأقباط فى مصر خاصة ممن يرتدون الثوب الكنسى : « لما بنزل الشارع بالتوب بتعرض إنى أسمع ألفاظ خارجة، وأحيانا ممكن حد يتف عليا، ومرة اتنين زمايلى رهبان فوجئوا بأطفال فى سن المدرسة بيحدفوهم بالطوب»، يسكت قليلا ثم يكمل «ده غير لما آجى أركب المترو وألاقى (المصليات) على أرضية المحطة، المفروض إن ده مكان عام وإن الصلاة تكون فى أماكن العبادة»، يسكت قليلا ثم يكمل: «فى الأول التصرفات دى كانت بتضايقنى، لكن دلوقتى خلاص، وإحنا برضه بننزل الشارع وما بيهمناش، ولو نازل مكان عرفت فيه إن المواطنين مش هيفهموا طريقة لبسنا، بنزل بقميص وبنطلون عادى وبتخلى عن التوب». يفتخر الأخ بيو كثيرا بوجود نجيب ساويرس فى الحياة الاقتصادية فى مصر كواحد من أبرز رجال الأعمال الأقباط، لكنه لا ينفى أيضا إبعاد الأقباط عن مناصب بعينها فى الدولة قائلا: «ما نعرفش هل ده مخطط له ولا» ثم يصمت دون أن يكمل إجابة السؤال، ليطرح تساؤل يراه جدليا «لا تعنينى ديانة رئيس الجمهورية، لكننى مع حق ترشح المسيحى لرئاسة الجمهورية، ومن الأفضل إلغاء المادة الثانية من الدستور لأننى لا أعرف هل نتعامل كدولة دينية أم مدنية ؟». متابعته الدائمة لأبرز القضايا اليومية، واشتباكه معها فى أكثر من منطقة، لا يراها متناقضة مع طبيعة الحياة الزاهدة التى يعيشها كراهب، فبعد اجتيازه لعامين «تمهيدى» فى حياة الرهبنة نذر «بيو» الرب بثلاثة نذور أساسية، وهى الفقر، والعفة، والطاعة، بمعنى أن لا يمتلك باسمه أى ممتلكات خاصة، وأن يهب جميع ما لديه لخدمة الكنيسة، وشرط العفة جاء ضمانا بألا يهب الراهب حبه لفتاة محددة، بل يجب أن يشمل الجميع، أما النذر الثالث فيقول عنه: «الطاعة بمعنى أنى أطيع رؤسائى فى أى طلب يطلبونه منى فى كل الأحوال». لا يملك «الأخ بيو» من ساعات يومه شيئا، فكلها ملك للكنيسة ونظامها، الاستيقاظ مبكرا فى الخامسة والنصف فجرا، ثم صلاة القداس والفروض من السادسة والربع وحتى السابعة صباحا، يتبع ذلك ساعة لتناول وجبة الإفطار حتى الثامنة، وفى تمام الساعة الثامنة و45 دقيقة يتلقى بيو دروسه اليومية فى الفلسفة واللغة: «بدرس فى الكنيسة معظم أنواع الفلسفة سواء إسلامية أو مسيحية أو يونانية وغيرها كتير، ده غير دراستى لبعض اللغات اللى بتساعدنى أكتر على فهم الكتاب المقدس زى العبرى واليونانى»، تنتهى الدروس فى الثانية عشرة والنصف ظهرا، ثم صلاة أخرى لمدة نصف ساعة، وفى تمام الواحدة يجلس الجميع لتناول وجبة الغذاء، بعدها فترة راحة لمدة ساعة واحدة، وحتى الساعة الرابعة عصرا ينشغل الجميع فى «نظافة» مكان السكن. الساعات بين الرابعة والنصف عصرا والسابعة، يُطلق عليها «وقت شخصى» للمذاكرة والتأمل والتفكير، السابعة صلاة الغروب اليومية، والثامنة موعد العشاء الثابت، وحتى العاشرة والنصف مساء وقت جماعى، وينتهى اليوم بصلاة «النوم». حياته الصارمة التى يعيشها يوميا فى الكنيسة، جعلته يشبهها بعلاقة الزواج: «فى أى علاقة زوجية، دائما ما يحدث فترات صعود وهبوط لطبيعة العلاقة، وأحيانا ما تحدث أزمات، وهو نفس ما يحدث فى علاقة الراهب بربه، لكن قوة العلاقة تسمح لى بأن أعدّى الأزمات دى، ومبفكرش فى التراجع عن طريق الرهبنة، رغم إن إسرتى فى الأول كانت معترضة على قرارى». بمجرد أن تطأ قدم السير «ناهد» مدخل كنيسة العائلة المقدسة بالمطرية بزيها الكنسى، يتجمع حولها عدد كبير من الشباب والفتيات فى أعمار متفاوتة، يمشون بمحاذاتها ويحكون لها بعض تفاصيلهم اليومية منتظرين رأيها فيها، يرجع ذلك إلى خدمتها اليومية فى مدارس الراهبات وتعاملها مع طلبة المرحلتين الإعدادية والثانوية، بحكم أنها راهبة شابة لا يزيد عمرها على 32 عاماً، وهو ما جعلها ترفض الانغلاق فى مجتمع ضيق، وتحرص على توسيع دائرة معلوماتها بكل ما هو جديد حتى تستطيع أن تتحدث مع طلابها والشباب المترددين على الكنيسة: «أنا بتابع التليفزيون وبحب أتفرج على العاشرة مساء، وشفت فيلم «أوقات فراغ» علشان هو بيعبر عن شباب الجيل الحالى، ده غير إنى بسمع المطربين الشباب زى تامر حسنى وأبوالليف من خلال الطلبة بتوعى، لكن بحب شيرين ومحمد منير، بس لازم أسمع كله علشان بقعد أتناقش مع الطلبة فى محتوى كل أغنية وبنقيمها». تعشق أكثر ما تعشق مناداتها بلقب «سير»، تشعر فى نبرة صوتها بفخر كونها لاتزال شابة واستطاعت أن تحصل على لقب «راهبة» بشكل رسمى، تفاصيل حياتها اليومية ك «سير» لا تختلف كثيرا عن حياة أى راهب، وإن كانت تعتبر من أصغر الراهبات سنا، فالاستيقاظ أساسى فى حدود الخامسة والنصف صباحا، مع أداء جميع الصلوات اليومية، بالإضافة إلى الاهتمام بشؤون المنزل الذى تسكنه مع راهبتين آخرتين، بدءا من الاهتمام بالنظافة اليومية للمنزل، مرورا بالنزول لشراء الاحتياجات من السوق، انتهاء بإعداد وجبات الطعام المختلفة، وفى وسط زحام اليوم والتحامها الكبير بأهالى منطقة المطرية أثناء ذهابها للتبضع والشراء لا يخلو الأمر من بعض التعليقات التى لا تعبر عن احترام لاختياراتها – على حد وصفها- وهو ما يحزنها كثيرا، وجعلها تتحدث بصوت يوشك على البكاء «أنا منتمية لبلدى مصر وبتضايق لما بيتقال إننا أقلية، الفكرة مش فى العدد، المهم الانتماء وحب البلد، والاضطهاد الموجود دلوقتى جديد، ومكناش بنواجهه زمان»، تضيف «ما ينفعش أزين الحقايق، فى اضطهاد بيقع على المسيحيين فى مصر»، تتذكر السير صديقاتها المسلمات المقربات، واللاتى رافقنها خلال المراحل الدراسية المختلفة، تحكى عن مدى الود الذى جمع بينهن، إلى الدرجة التى تجعلها تحرص حتى الآن على الذهاب لزيارتهن فى منازلهن. تنتقل «السير» من معاناتها فى الوقت الحالى وترجع بالزمن قليلا إلى الوراء، وتتذكر الصعوبات التى واجهتها عندما قررت أن تسلك طريق الرهبنة وهى فى الثانية والعشرين من العمر، وهو ما يعتبر من أصعب المواقف التى مرت بها، فوالدتها كانت تنتظر بفارغ الصبر اليوم الذى ترى فيه ابنتها متزوجة ومن حولها أولادها لكى تطمئن عليها، لذلك جاء قرارها بالرهبنة كصدمة للكثير من حولها، خاصة فى عمر الثانية والعشرين وهو السن الذى يبدأ فيه رسميا «العرسان» فى التقدم وطلب اليد: «طبيعى فكرت فى الجواز والأولاد.. مفيش بنت فى المرحلة دى ما بتمرش بحاجات عاطفية والتفكير فى الارتباط لكن الرغبة الأكبر كانت فى حياة الرهبنة»، وتضيف «فى البداية كان فى معارضة فى البيت، وأخويا الكبير كان بيحاول يقنعنى بعرسان اتقدمولى، لكن فى النهاية انا اخترت حياة الرهبنة بعد تفكير طويل بدأ من وأنا لسه بدرس فى تانية إعدادى».