تخيل أن جسدك أصبح سجنك.. مجرد كبسولة معدنية تشبه بدلة غطس كبيرة تعزلك عن الحياة، ولم يتبق منك سوى فراشة صغيرة رقيقة الجناحين هى كل صلتك بالعالم. هذه الصورة ليست خيالا، لكنه واقع عاشه الصحفى الفرنسى جان دومنيك بوبى، وكنت قد طالعت منذ سنوات قصة حياته الغريبة، وشرعت فى ترجمتها عن الفرنسية، لولا أن أحبطنى صحفى يترأس تحرير سلسلة نشر مهمة قائلا دون أن يقرأ كلمة: ومن يهتم فى مصر بقراءة مثل هذه الموضوعات؟! وقبل أيام كنت أفتش عن معلومات تتعلق بحياة المنتج السينمائى الأسطورة راؤول ليفى، ووجدت كتابا عنه بقلم بوبى، وعرفت أن بوبى نفسه هو صاحب المذكرات التى لم تسقط من ذاكرتى، وتكشفت أمامى معلومات غزيرة ومثيرة، وجدت نفسى ألهث وراءها بلا توقف، فقرأت مذكرات بوبى «بدلة الغطس والفراشة»، الذى توفى بعد أيام من إصدارها. كان بوبى صحفياً شهيراً يترأس تحرير أهم مجلة نسائية فرنسية «آل»، وفجأة أصيب بمرض نادر يسمى «انغلاق الدماغ»، وهو يوحى بأن المريض قد دخل فى غيبوبة، لكنه يكون واعيا ولكن بلا حراك، وكان بوبى مجرد كومة من العظام، يدخل العابرون إلى غرفته فلا يجدون كائنا حيا، فيتعاملون مع جماد.. يغيرون محطة التليفزيون دونما النظر إليه، وكان يتألم من ذلك كثيرا!! ■ لكن كيف عرفنا أن بوبى يتألم؟ - من مذكراته التى كتب فيها: «كنت أريد أن أصرخ فيهم: اتركوا مباراة كرة القدم.. لا أريد الفيلم. ■ وكيف كتب مذكراته وهو عاجز تماما؟ - لم يكن عاجزا، بل نحن العجزة، لأننا نتصور ذلك عن الآخرين، ولا نتصور مدى قوة «من يريد»، والقصة بسيطة لكنها تشبه المعجزات، فذات يوم لاحظت إخصائية علاج التخاطب «ساندرين فيشو» أن الجسد الساكن بلا حركة فيه دليل حياة، يتمثل فى «رفة رمش العين اليسرى»، وبدأت تستخدم ذلك، فكانت تقول له مثلا: هل أغلق النور؟ فإذا رمش بعينه فهذا يعنى أنه موافق، وإذا حرك رمشه مرتين فإن هذا يعنى الرفض، وبعد ذلك استعانت بزميلتها «كلود مانديبل»، وابتكروا «كوداً خاصاً» للكتابة، حيث كانت تعرض أمامه الحروف الهجائية على التوالى بحيث يرمش عند الحرف الذى يريده، كانت تجربة مجهدة، لكنها أثمرت خلال أقل من عامين عن تجربة شخصية وإبداعية نادرة، قدم فيها جان دومنيك بوبى رؤية لنفسه وللعالم، لم يكتبها أحد قبله، ونتمنى ألا تتوقف بعده. لقد صنع دومنيك مجده الحقيقى وهو على فراش المرض فى خانة «العاجزين»، وعندما صدرت المذكرات باعت مليون نسخة، وترجمت إلى 23 لغة، وتحولت لفيلم سينمائى أخرجه الأمريكى «جوليان شنابل» وحاز السعفة الذهبية فى مهرجان كان عام 2007، كما حاز جائزة جولدن جلوب الأمريكية، ورشح لأربع جوائز أوسكار. لقد ضاعت بهرجة المنصب، وتضاءل كرسى رئاسة التحرير، وتأثير الكتابات الصحافية العابرة، ولم يبق لبوبى إلا تجربته الفريدة التى صنعها برمشة عين وهو راقد على فراش المرض، ولم يصنعها وهو يتبختر بغرور تحت أضواء المناصب، وذلك هو المجد، وتلك هى الإرادة، والحياة المستمرة بعد موت، فهل آن أوان الانتباه للفراشة الحبيسة فى كبسولة أجسادنا.. انطلقوا.