يالها من مشاهد غريبة ومثيرة ومتناقضة في آن واحد, عكستها شرائط سينمائية عرضت في مهرجان اسطنبول بدورته التاسعة والعشرين, لدرجة تخيل معها المرء ان البشر في عموم بلاد الفرنجة مصرون جميعا بلا استثناء علي التدخين, فالسيجارة لا تبرح شفاههم, رغم كل سبل مكافحة هذا الوباء, لكن الملفت أن تلك الاعمال التي تمثل أحدث ما انتجته استديوهات السينما الاوروبية والأمريكية وجدناها وقد ارتبطت مضامينها بقضايا الترهل الاجتماعي والتفكك الأسري, كالفيلم الفرنسي سعيد لأن أمي مازالت علي قيد الحياة للأخوين كلود وناتاهان ميللر, وتلك العدمية السوداوية في الفيلم الفرنسي الانتاج فراغ وإخراج الارجنتيني جاسبار نويي والمصور بالكامل في العاصمة اليابانية طوكيو, وكأن هناك علاقة بين الإغراق في مخلفات الدخان الرمادي والشخصيات غير السوية ان جاز هذا التعبير, الجانحة نحو الانتقام من عالم غير عادل لم ينصفهم البتة. لكن علي النقيض حفلت أيام وليالي مهرجان اسطنبول السينمائي بافلام أيضا غرق شخوصها كبارا وصغارا, شيوخا وعجائز, شبابا ونساء ورجالا, في نار التبغ ومشتقاته الرهيبة ولكنها حملت للعالم أجمع صرخات وأحلاما وأنغاما وجملا لحنية صاخبة وناعمة في وقت واحد, وإيقاعات الجيتار التي تنشد الحرية والالتفاف حول الشعوب بقيمها المنسية. هكذا وجدنا مجتمعات القارة الاوروبية العجوز بعد ان خرجت من هلاك الحرب العالمية الثانية وسقوط النازي الي الأبد مستقبلة حقبا جديدة: الخمسينيات والستينيات وبعضا من السبعينيات ومعها وفيها انطلقت آهات التمرد ودعوات للنزوح والولوج نحو الايقاعات الشعبية, غير أن النقمة التي أصابت القائمين علي تلك الموجات الجديدة كانت في تلك السحابات الهائلة من دخان يخرج من أفواههم معبئا كل الأجواء فكيف استقامت هذه الابداعات التي مازالت اصداؤها باقية وستظل طالما ظل الانسان علي ظهر هذا الكون ؟. ربما كانوا جميعا لا يدركون الخطر الكامن وراء إشعال عيدان الكبريت أو ولاعات الغاز بيد أن كثيرين منهم سيسقطون صرعي يسكن الموت الابدي أجسادهم, ومنهم الملحن والمؤلف والمخرج سيرجي جيانسبورج(1929 1991) ملك البوب الفرنسي اسطورة حقبتي الستينيات والسبعينيات, الذي تناول حياته ومسيرته علي نحو فانتازي خلاب ومؤثر, رائد الكوميديا الجديدة في فرنسا ابن مدينة نيس الشهيرة جونان سافار في فيلم موسيقي من إنتاج فرنسي أمريكي مشترك حملGAiLNSBOURG, ومن خلال كاميرا واعية عشنا باريس الخارجة توا من مأساة الحرب العالمية الثانية التي أسدلت ستائرها في عام1942 حينها كان محور العمل السينمائي صبيا يافعا مشاغبا موهوبا ومعجونا في الجمل والالحان لكن ليس بتلك الطريقة التي كان والده يريدها له. كان سيرجي اذن, والذي أدي شخصيته الممثل إيريك المسينو, جزءا من فضاء مغاير ساد سنوات مابعد سقوط النازي متسما بحركات تغيير هائلة ورؤي مناهضة للسائد والمألوف علي كل الانساق الحياتية الاوروبية داعية الي تبني ما هو واقعي والخروج من شرنقة القوالب الجاهزة ولم يكن في الامر مصادفة ان يأتي بزوغ نجم موسيقي البوب متلازما مع ميلاد الموجة الجديدة في السينما الفرنسية(1950 1967) برموزها جان لوك جويدار وكلود شابرول المولدين عام1930, وفرانسوا تروفو(1932 1984) وجاك ريفيت مواليد1928 والتي كانت بدورها إرهاصا لما حدث ويحدث من ثورات في الفن السابع ايطاليا قادها فيتوريو دي سيكا(1901 1974) وفيدريكو فلليني(1920 1993) وليتشيانو فيسكونتي(1906 1976) إلي آخره, لكن بدا هناك فارق ففرنسا لم تنس رومانسية القرن التاسع عشر والحان فرانز ليست(1811 1886) وفردريك شوبان(1810 1849) وهكذا شاهدنا وسمعنا جملا لحنية رومانسية لسيرجي جيانسبورج وهي تنساب عذوبة من خلال أنامله الساحرة علي آلة البيانو. وتنقلنا أفلام المهرجان الي الضفة الأخري من المانش الشهير, حيث الامبراطورية التي لا يغيب عنها الشمس, وها هي عاصمتها لندن تموج تحت صخب الروك أندرول والعشق المجنون الذي لا نهاية له للأمريكي الأسطورة الفيس بريسلي(1935 1977) وموسيقاه وأغانية والذي تساءل الانجليزي الشهير التون جون: اسألوا الجميع من حولكم, لو لم يكن الفيس موجودا لا أعلم ماذا كان سيحل بموسيقي البوب اليوم؟! وله الحق فهو أول من نجح في كسر تلك العنصرية الامريكية البغيضة في عالم النغم مازجا موسيقي البيض والتي عرفت باسم الكونتري بنظيرتها المسماة البلوز الخاصة بالسود, والتف حوله الشباب والمعجبون بموسيقاه حيث شكل بريسلي بأغانيه ورقصاته وشكله حالة مختلفة عند الشباب والذي سريعا ما أصبح يأخذ من ألفيس بريسلي قدوة له في طريقة الملابس وتسريحة الشعر. وكان يكفي فقط ذكر اسمه حتي تدب النشوة العارمة في أفئدة الملايين شابات وفتيانا في تلك الأجواء بزغ فريق البيتلز مع بدايات سنوات الستينيات من القرن الماضي واسطورة نجومه ونهاية بعضها التراجيدية والمأسوية, وفيلمنا موضوع السطور التالية والمعنونNOWHEREBOY يدور حول أحد عناصرها الاساسيين جون وينتسون أونولينونJohnWnstonOnoLennon(1940 1980) الذي أختير ضمن اشهر مائة مغني روك حتي بعد مرحلة البيتلز, وتعتبر حقول الفراولةStrawberryFelds من أشهر أغانيه, وكان ايضا عازف جيتار لفرقة البيتلز. بالاضافة إلي أنه كتب معظم القصائد التي غنتها الفرقة ومعها بول مكارتني واشهرها:ADay,s يght وHelp وForeveوADaynTheLfe, وبعد توقفها عام1970, عاش مع زوجته يوكو أونو في الولاياتالمتحدةالامريكية, وأكمل مسيرته الفنية حتي عام1980 حيث لقي حتفه برصاص مختل عقليا وهو في طريق عودته الي منزله في نيويورك. لكن الشريط الذي أخرجته كاترين سام وود المولودة في لندن عام1967 ركز علي فترة صبا لينون وبدايات مرحلة شبابه ومسيرته كعضو بفرقة البيتلز في ليفربول بإنجلترا حيث عزف علي الجيتار قبل ان يتعلم العزف علي البيانو. ومن خلال المشاهد التي نقلت المتلقي بحرفية عالية كي يعيش في عاصمة الضباب كما كانت قبل سبعة واربعين عاما نلمس روح الغضب والاحتجاج في شخصية لينون والذي اداها ايرون يوهنسون والتي ستظهر فيما بعد بالعديد من أغانيهPowerTothepeople وأغنيةmagne والأخيرة التي كانت عنوان كتاب اعتمد الفيلم عليه خير مثال علي نفسية هذا الفنان. من الروك الي موسيقي أخري ليست بعيدة عنها, انها أنغام الجاز وشدو مردديها الشجي والصاخب في آن واحد حيث كان الجمهور علي موعد مع الفيلم الوثائقي والذي أخذ عنوان حكاية عارف ماردين وهو إنتاج أمريكي تركي انجليزي مشترك وفيه نتعرف علي قصة مواطن تركي ولد في اسطنبول عام1932 وعاش جل شبابه فيها ثم التحق بقسم الاقتصاد بجامعة المدينة التاريخية الكبيرة ثم يستكمل تلك الدراسة بمدرسة لندن لعلوم الاقتصاد قبل أن تتغير حياته كاملة اعتبارا من1956 إذ تفرغ لحبه وعشقه في تأليف موسيقي الجاز ليصبح علما بارزا فيها ومصاحبا لمجموعة من النجوم كاعضاء فريق البي جييز الشهير ورغم أن ماردين عاش في نيويورك إلا أن اسطنبول بدت مشاهد لا تفارقه حتي فارق الحياة قبل ست سنوات.