وصفت دراسة مصرفیة عملیات بیع البنوك المصریة التي تمت في السنوات الأخیرة، بأنھا «استعمار اقتصادي وسط ضبابیة وصمت من قبل المسؤولین». وأكدت الدراسة التي أعدها الباحث المصرفي أحمد آدم، ونشرتها صحيفة «الشرق الأوسط» اللندينة، الاثنين، أن الاقتصاد المصري شھد حالة من التباطؤ في معدلات نمو السیولة المحلیة بدءا من منتصف تسعينيات القرن الماضي لأسباب متعددة، أهمھا خروج أموال من الداخل للخارج عن طریق خروج رجال أعمال مصریین تاركین وراءهم مدیونیات كبیرة للبنوك، بخلاف استثمارات كبیرة في مشاریع ضخمة لم تدر العوائد المنتظرة، وأهمھا مشروع توشكى. وأدت حالة تباطؤ معدلات نمو السیولة المحلیة التي كشفت عنھا الدراسة، إلى كساد بالأسواق وجد معھ التجار صعوبة في سداد التزاماتھم المالیة، ثم ما لبث أن تحول الأمر لظاهرة عامة أدت في النھایة لحالة التعثر التي شھدها القطاع المصرفي المصري في بدایة القرن الحالي والتي ما زال ملفھا مفتوحًا حتى الآن. وقد تأثرت البنوك كثیرا بأزمة التعثر وبشكل أثر على كل أنشطتھا المصرفیة، فنتیجة لتباطؤ معدلات نمو السیولة اشتدت المنافسة بین البنوك على اجتذاب الودائع، فارتفعت أسعار فائدتھا آنذاك، علاوة على ذلك ساهمت أزمة السیولة في حساسیة مفرطة عند سحب ودائع بكمیات كبیرة من البنوك لأي غرض، سواء لشراء البنوك أذون خزانة مطروحة بأسعار جیدة، أو لشراء سندات خزانة أو أسھم بأسعار جیدة، أو لشراء سندات خزانة أو أسھم بأسعار مشجعة بالبورصة، وهو ما كان یؤدي وبسرعة لارتفاع في أسعار فائدة الإنتربنك (الودائع المتداولة بین البنوك بعضھا بعضًا) حتى وصلت في بعض الأحیان إلى 18%، وهو ما أدى لارتفاع تكلفة الودائع بجمیع البنوك، وبالتالي كان من الطبیعي أن ترفع البنوك سعر الفائدة على القروض والتسھیلات الائتمانیة للعمل على الحفاظ على استقرار هامش العوائد فیما بین العائدین الدائن والمدین، لمحاولة الحفاظ على مجمل أرباحھا. وقالت دراسة آدم إن أزمة السیولة وانخفاض معدل التدفقات النقدیة في السوق خلقا صعوبة في سداد التزامات العملاء للبنوك، وبدأت الدیون في الظھور، وهو ما بدأت معھ البنوك في التحوط بزیادة تكوین المخصصات العامة، وكذا المحددة للقروض، وهو ما أثر سلبا على صافي أرباحھا. وأشارت الدراسة إلى أنھ من الطبیعي في ظل أزمة السیولة أن یحدث نوع من الانخفاض والتدني في معدل التعاملات الیومیة لعملاء البنوك من سحب وإیداع واستخدام حدود ائتمانیة وتحصیل شیكات وكمبیالات، وهو ما أدى لانخفاض عائد الخدمات المصرفیة في أغلب بنوك مصر، وأثر ذلك أیضا بالسلب على ناتج أعمال البنوك. ولم یتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تحولت القروض إلى طویلة الأجل بسبب عدم سداد العملاء الفوائد والأقساط المستحقة لھذه القروض، وهو ما أدى لفجوة رهیبة فیما بین الأصول والخصوم، وبدأ تدشین أزمة التعثر إعلامیا وبشكل أساء للمصرفیین، فتوقف رؤساء البنوك عن منح القروض، وكذا عن عقد التسویات الائتمانیة حتى مع العملاء الجادین، وهو ما دفع البنك المركزي المصري لتغییر قیادات البنوك وإحلال قیادات جدیدة بغرض عقد تسویات جادة لإصلاح الفجوة فیما بین الأصول والخصوم والحفاظ على حقوق المودعین، إلا أن اختیار هذه القیادات قد جانبھ الصواب آنذاك ولم ینجح منھم إلا عدد قلیل جدا، وبات الأمر یشكل كارثة حقیقیة، فأموال المودعین باتت تواجھ خطورة كبیرة في ظل التعثر وعدم قدرة البنوك على تحقیق إیرادات لتكوین مخصصات كافیة. وقالت الدراسة إنھ للظروف السابقة قام رئیس الحكومة وقتھا، الدكتور عاطف عبید، بتطویر قانون البنوك وإصدار قانون جدید للحد من إمكانیة تكرار أزمة التعثر، وتضمن القانون المادة 32 التي جعلت الحد الأدنى لرأسمال أي بنك یعمل في مصر لا یقل عن 500 ملیون جنیھ، ولم یكن هناك أي بنك مصري وصل رأسمالھ لھذا الحد وقت مناقشة القانون لإقراره بمجلس الشعب سوى البنك التجاري الدولي (CIB) وكان رأسمالھ آنذاك 650 ملیون جنیھ. كما كان عدد كبیر من البنوك لا یوزع أرباحا على المساهمین، وتقوم أغلب البنوك بتحویل مجمل أرباحھا إلى مخصصات للقروض، وبالتالي فرفع رؤوس أموال البنوك عن طریق طرح مباشر لأسھم الزیادة في رأس المال بالبورصة لم یكن لیتم بنجاح لعدم قدرة أغلب بنوك مصر على حث مساهمیھا على الاكتتاب في زیادة رأس المال في ضوء توقفھا عن توزیع أرباح. وانتھت المھلة التي حددها البنك المركزي المصري للبنوك لتوفیق أوضاعھا طبقا للقانون الجدید وترفع رأسمالھا للحد الأدنى، وهو ما لم تفعلھ أغلب البنوك، وكان قرار الدمج الحل الوحید المتوفر أمام البنوك لتوفیق الأوضاع، إلا أن فشل كل حالات الدمج التي تمت بمصر، وكذا بالوطن العربي، كان سببا في التراجع عن هذا الحل، خصوصا بعد إعلان بعض الدراسات أن هناك احتمالات مؤكدة بأن إتمام الاندماجات المخطط لھا ستنشأ عنھ كیانات هشة أكثر سوءًا، وبات الوضع في ظل هذه الظروف أكثر كارثیة. وظھرت الأمور وقتھا أن ترك الوضع على حالھ سیكون أمرا واقعا على الرغم من أن غض الطرف عن مخالفة البنوك للمادة 32 من القانون الجدید سیفقد البنك المركزي المصري مصداقیتھ أمام الرأي العام. والواقع یؤكد أنھ، حتى منتصف العقد الأول من الألفیة الجدیدة، لم یكن أحد یتصور أن تأتي بنوك عربیة وأجنبیة ذات أسماء معروفة عالمیا وإقلیمیا لشراء بنوكنا المصریة ونقل عبء إصلاحھا من البنك المركزي لھذه البنوك. وترصد الدراسة عوامل داخلیة تضافرت معھا عوامل خارجیة أدت لأن یكون قطاع البنوك من أكثر القطاعات جذبا للاستثمارات غیر المصریة، منھا خروج مصر من قائمة الدول التي بھا نشاط غسل أموال؛ لأن دول هذه القائمة تجد صعوبات جمة وإجراءات معقدة عند التعامل مع أي بنوك خارجیة، كما تجد صعوبات في دخول وخروج رؤوس الأموال، وهي ما تمثل عوامل طرد لأي استثمارات مباشرة، بالإضافة إلى صدور قرار تحریر سعر الصرف، وهو القرار الذي أثار مخاوف عند صدوره، إلا أن قیام البنك المركزي بتفعیل نظام الإنتربنك الدولاري جعل العملات الأجنبیة متوافرة بالبنوك عند طلبھا، وخصوصا لفتح الاعتمادات المستندیة الخاصة بالاستیراد، وهو ما أدى في النھایة للقضاء تماما على السوق الموازیة وتوفیر العملات الأجنبیة بشكل سمح بحریة تامة في تحویلھا داخل أو خارج حدود البلاد، مع الإسراع في برنامج الخصخصة الذي أدى لزیادة الاستثمارات المباشرة ودخول مستثمرین أجانب، خصوصا بعد السماح ببیع صناعات استراتیجیة كان الاقتراب منھا فیما سبق خطا أحمر، مثل صناعات الأسمنت. وقالت الدراسة إن أحداث 11 سبتمبر وتداعیاتھا المستمرة جعلت الاستثمارات العربیة تواجه صعوبات ومشكلات بالغة في أوروبا وأمیركا، بخلاف أن البنوك العربیة وكذا فروع البنوك العربیة بأمیركا وأوروبا، وجدت صعوبات حدت من معدلات أدائھا، وبدأت الاستثمارات العربیة في البحث عن فرص توسعیة خارج حدود أمیركا وأوروبا، مع وجود فوائض البترول الضخمة التي حققتھا الدول البترولیة العربیة بعد الطفرة التي حققتھا أسعار البترول، حیث بلغ معدل النمو بالسعر الاسمي للبرمیل بالدولار 119%، فیما بین عامي 2001 و2005، وهو ما أدى لزیادة عائدات البترول بشكل كبیر، وهو ما یجعلھا تبحث عن فرص خارجیة لاستثمار فوائضھا المالیة.