"على كرسي بلاستيكي يجلس مستمعًا" بالضبط هذا ما حدث؛ فأدونيس الذي دخل المعرض وسط حراسة أشبه بالهالة، ومحيطين أشبه بالكهنة، جلس على مقهى زهرة البستان وسط عدد لا يتجاوز الثلاثين عربيا، يستمع باهتمام، ويتحدث بأريحية، متوقفا عن هذا وذاك ليصافح شخصا لا يعرفه، أو ليعانق صديقا فرقت بينهما الأيام. جاء ذلك الجلسة الودية، المعروفة بقعدة الجمعة والتي أسسها الشاعر عبدالمنعم رمضان ويؤرخها بالصور الروائي وحيد الطويلة، ومن أعمدتها الكتاب سعيد الكفراوي ومكاوي سعيد وصابر رشدي، وقد ضمت هذا الأسبوع نبيل عبدالفتاح والعراقي جبار ياسين والسوري علي حرب وسلوى النعيمي وخليل النعيمي. عقب صلاة الجماعة بدأت ندوة فريدة مع أدونيس الذي بدا مختلفا وحقيقيا وإنسانًا كأنه عصفور مصغ إلى جدول.. طلب رمضان أن تبدأ الجلسة، وبدأ الأكاديمي نبيل عبدالفتاح بتوصيف الوضع في مصر: "نحن بحاجة إلى أفكار أدونيس الآن؛ فلدينا فقر في الأفكار، ولدينا تطور شديد من مظاهره تمرد الشباب ويتجلى ذلك من خلال لغتهم التي تهاجم وتحقر المقولات السائدة" لكن أدونيس تحدث عما هو أبعد: "يجب أن تكون الثقافة مستقلة، أن تلتزم بالمناهج العلمية فقط، وهذه هي المشكلة" وهنا قال أحد الحضور: "إن المشكلة الكبرى هي أن عددا كبيرًا من الشعب جاهل" رد أدونيس" إذا ذهبت إلى ساحة التحرير وتحدثت مع صاحب محل أو مع شخص عابر، وذهبت إلى ساحة الشانزلزيه وفعلت الشيء نفسه فستجد أن الفرد المصري أكثر ثقافة ووعيا، شعوبنا كأفراد أفضل لكن المؤسسات الموجودة تعرقلها وتفسدها.. ما يميز هذه البلاد هي نخبتها". وهنا سأل عبدالفتاح عن الفرق بين النخبتين، فقال أدونيس: " النخبة الفرنسية شاركت في صنع دولتها وخاضت حروبا من أجل ذلك، لذلك نالت استحقاقها بجدارة؛ فحين طلب من شارل ديجول الموافقة على اعتقال سارتر لأنه يقود المظاهرات ويوزع المنشورات، رفض قائلا: أنا أعتقل ديكارت! اتركوه يفعل ما يشاء" ذكر عبدالفتاح واقعة رفض الطهطاوي طلب الخديوي إسماعيل بالتعامل مع مواد القانون الإيطالي خوفا من الأزهر مدللا بذلك على أن النخبة المصرية تعقد مواءمات مع السلطات الموجودة، وهنا قال عبدالمنعم رمضان: إن بهاء طاهر أشار في كتابه أبناء رفاعة الطهطاوي إلى هذه الظواهر معللا بأن النخبة تركب قطارالسلطة لتصل إلى الناس برسالتها، أي إنها تتنازل عن جزء من رسالتها لتصل بجزء.. انتقل الحديث إلى تأثير العرب في العالم الآن، فحسم أدونيس الأمر وابتسامته تتسع: لنجمع الآن بلدان العالم العرب وغيرهم، ولنطلب منهم أن يقولوا: ماذا سيقدمون للعالم؟ ما إجابة العرب وقتها؟ ووسط ضحكات الحضور قال نبيل عبدالفتاح: لله يا محسنين. جاء سؤالي لأدونيس على خلفية مقاله الأخير في صحيفة الحياة "أين الجناح الآخر لطائر الحقيقة؟" هل سيتركنا الغرب الذي يريد تنميطنا وتثبيتنا في منطقة محددة نصل إلى حداثتنا دون تدخل، وهو الداعم الرئيسي لحركات التطرف والأصولية، وهو الذي لا يسمح لنا سوى بأخذ ما يجعلنا مستهلكين لفوائض إنتاجه" أجاب أدونيس: الغرب ليس واحدا فهناك غرب فرنسي وغرب ألماني وغرب إيطالي وغرب أمريكي، كذلك الشرق، وهناك غرب ثقافي وثان اقتصادي، وثالث سياسي .. وهنا الغرب السياسي هو المتحكم.. ولديه خططه" لم تتوقف الجلسة إلا حينما أوضح رمضان أن لدى أدونيس مواعيد لا تتأخر نظرا لسفره فجرًا. بدت جلسة أدونيس على مقهى زهرة البستان القاهري رسالة ناصعة على أن الرجل جاء إلى القاهرة التي يبحث عنها، والتي عبر عنها بقوله: بيروت تجمعات إثنية، أما هنا فلا، الجميع متداخلون، إنها مدينة مؤهلة لأن تكون مدينة الحس الإنساني" . المشهد.. لا سقف للحرية المشهد.. لا سقف للحرية