القاهرة الإخبارية: بدء تحرك شاحنات المساعدات المصرية باتجاه معبر رفح تمهيدًا لدخولها إلى غزة    إسرائيل تعلن عن هدن إنسانية في قطاع غزة    جوتيريش يدعو إلى وقف إطلاق النار بين كمبوديا وتايلاند    «برشلونة وآرسنال».. مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة    كارول سماحة تنعى زياد الرحباني بكلمات مؤثرة وتوجه رسالة ل فيروز    وزير الثقافة: نقل صنع الله إبراهيم إلى معهد ناصر بالتنسيق مع وزارة الصحة    ريم أحمد: أعتز بشخصية «هدى» في «ونيس».. لكنني أسعى للتحرر من أسرها    القنوات الناقلة ل مباراة برشلونة وفيسيل كوبي الودية.. وموعدها    القصة الكاملة لحادث انهيار منزل في أسيوط    درجة الحرارة 47.. إنذار جوي بشأن الطقس والموجة الحارة: «حافظوا على سلامتكم»    تنسيق الجامعات 2025.. الكليات المتاحة لطلاب الأدبي في المرحلة الأولى    تحالف بقيادة قوات الدعم السريع يعلن تشكيل حكومة موازية في السودان    توقف جزئي ب «جزيرة الدهب».. مصدر يكشف سبب انقطاع المياه في محافظة الجيزة    احمِ نفسك من موجة الحر.. 8 نصائح لا غنى عنها لطقس اليوم    إصابة 11 شخصًا بحادث طعن في ولاية ميشيغان الأميركية    الجنرال الصعيدي.. معلومات عن اللواء "أبو عمرة" مساعد وزير الداخلية للأمن العام    الخامسة في الثانوية الأزهرية: «عرفت النتيجة وأنا بصلي.. وحلمي كلية لغات وترجمة»    الثالث علمي بالثانوية الأزهرية: نجحت بدعوات أمي.. وطاعة الله سر التفوق    «تجاوزك مرفوض.. دي شخصيات محترمة».. نجم الأهلي السابق يفتح النار على مصطفى يونس    «حريات الصحفيين» تعلن دعمها للزميل طارق الشناوي.. وتؤكد: تصريحاته عن نقابة الموسيقيين نقدٌ مشروع    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    ما حكم شراء السيارة بالتقسيط عن طريق البنك؟    أمين الفتوى: الأفضل للمرأة تغطية القدم أثناء الصلاة    بعد فتوى الحشيش.. سعاد صالح: أتعرض لحرب قذرة.. والشجرة المثمرة تُقذف بالحجارة    دبلوماسيون: مصر وقفت صامدة ضد تهجير أهالي غزة ولا أحد ينكر دورها    "سنلتقي مجددًًا".. وسام أبوعلي يوجه رسالة مفاجئة لجمهور الأهلي    عكاظ: الرياض لم يتلق مخاطبات من الزمالك بشأن أوكو.. والمفاوضات تسير بشكل قانوني    نيجيريا يحقق ريمونتادا على المغرب ويخطف لقب كأس أمم أفريقيا للسيدات    وسام أبو علي يودع جماهير الأهلي برسالة مؤثرة: فخور أنني ارتديت قميص الأهلي    5 أسهم تتصدر قائمة السوق الرئيسية المتداولة من حيث قيم التداول    "مستقبل وطن المنيا" ينظم 6 قوافل طبية مجانية ضخمة بمطاي.. صور    أعلى وأقل مجموع في مؤشرات تنسيق الأزهر 2025.. كليات الطب والهندسة والإعلام    سم قاتل في بيت المزارع.. كيف تحافظ على سلامة أسرتك عند تخزين المبيدات والأسمدة؟    خلال ساعات.. التعليم تبدأ في تلقي تظلمات الثانوية العامة 2025    مصرع شخصين وإصابة 2 آخرين في حادث تصادم دراجة بخارية وتوك توك بقنا    قبل كتابة الرغبات.. كل ما تريد معرفته عن تخصصات هندسة القاهرة بنظام الساعات المعتمدة    مستشفى بركة السبع تجري جراحة طارئة لشاب أسفل القفص الصدري    بدء المؤتمر الجماهيري لحزب "الجبهة الوطنية" في المنوفية استعدادًا لانتخابات الشيوخ 2025    عيار 21 بعد الانخفاض الكبير.. كم تسجل أسعار الذهب اليوم الأحد محليًا وعالميًا؟    سعيد شيمي يكشف أسرار صداقته مع محمد خان: "التفاهم بينا كان في منتهى السهولة    تامر أمين يعلّق على عتاب تامر حسني ل الهضبة: «كلمة من عمرو ممكن تنهي القصة»    ماكرون يشكر الرئيس السيسى على جهود مصر لحل الأزمة فى غزة والضفة الغربية    استشهاد 3 فلسطينيين وإصابات جراء قصف الاحتلال شقة سكنية في غزة    سعر المانجو والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الأحد 27 يوليو 2025    محافظ الدقهلية يتدخل لحل أزمة المياه بعرب شراويد: لن أسمح بأي تقصير    خالد الجندي: من يُحلل الحشيش فقد غاب عنه الرشد العقلي والمخ الصحيح    عطل مفاجئ في محطة جزيرة الذهب يتسبب بانقطاع الكهرباء عن مناطق بالجيزة    وزير الثقافة: نقل الكاتب صنع الله إبراهيم إلى معهد ناصر بالتنسيق الصحة    الأمم المتحدة: العام الماضي وفاة 39 ألف طفل في اليمن    وفاة وإصابة 3 أشخاص إثر انقلاب سيارة ربع نقل داخل ترعة بقنا    بسبب ماس كهربائي.. السيطرة على حريق بمنزل في البلينا بسوهاج    جامعة الجلالة تُطلق برنامج "التكنولوجيا المالية" بكلية العلوم الإدارية    القاهرة وداكار على خط التنمية.. تعاون مصري سنغالي في الزراعة والاستثمار    البنك الأهلي يعلن رحيل نجمه إلى الزمالك.. وحقيقة انتقال أسامة فيصل ل الأهلي    التراث الشعبي بين التوثيق الشفهي والتخطيط المؤسسي.. تجارب من سوهاج والجيزة    عاجل- 45 حالة شلل رخو حاد في غزة خلال شهرين فقط    حلمي النمنم: جماعة الإخوان استخدمت القضية الفلسطينية لخدمة أهدافها    تقديم 80.5 ألف خدمة طبية وعلاجية خلال حملة "100 يوم صحة" بالإسماعيلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا والعجوز
نشر في المشهد يوم 09 - 09 - 2014

علي إثر حُلم لا أتذكره تقلبت في الفراش ، فإذا بضوء الشمس المتسلل من شيش النافذة يخترق الستارة ، مفترشاً جسدي الممدد تحت اللحاف ، ألقيت باللحاف جانباً ، وقفزت من علي السرير قفزاً ، فنفاذ الضوء علي هذا النحو إشارة بأني قد تأخرت . وضعت قدمي في الشبشب علي عجل ، وأسرعت إلي الحمام وأنا أنزع عني ملابسي علي وقع أقدامي . ألقيت بجسدي تحت الدش ، فشعرت بقشعريرة الماء البارد ، صوت رنين الهاتف يعربد في الصمت المطبق ، فخرجت مسرعة ، وأنا أجفف جسدي بالمنشفة ، حتي أخرسه ، ضغطت علي زر الرد ، ووضعته بجوار أذني ، بين رأسي وكتفي ، وأنا أجفف شعري ، وقبل أن أرد جاءني صوته صارخاً كالعادة ، إنه رئيس التحرير يتلو علي مسامعي واجبات هذا اليوم ، وأنا لا أملك إزاء صوته الحاد والقاطع سوي هز رأسي عمودياً ، مع ترديد عبارة : " علم يا أفندم " . ألقيت بجسدي داخل ملابسي ، ولملمت شعري هكذا كما اتفق داخل البونيه ، وقفت أمام المرآة ، وجهي يخلو من المساحيق ، إلا أنني قد تأخرت كثيراً . التقطت اللابتوب والكاميرا وحقيبتي الشخصية ، وهرولت تجاه الباب الذي أغلقته خلفي . في الشارع لم أنس أن أحيي من أعرف من أصحاب المحلات ، والباعة الجائلين الذين يفترشون الأرصفة ، وعم أمين بائع الجرائد علي الناصية ، الذي كان يناديني بلقب الأستاذه ، فقد كان يعرف أني صحفية ، رأي صورتي بجوار العديد من التحقيقات التي أجريتها من قبل ، وقد كان يعطني العدد المنشور فيه التحقيق مجاناً . اخترقت زحام المارة حتي وصلت إلي محطة الركوب التي اعتدت الركوب منها ، وعندما وصل الأتوبيس إلي المحطة هرولت الجموع للظفر بموضع قدم فيه ، تدافعت الأجساد دون إرادة ، ودفعتني داخل دوامتها ، حتي وجدتني محشورة داخل الأتوبيس ، تناسيت الزحام ، وجعلت أحدد برنامج اليوم خطوة بخطوة ، انطلق صوت أحد الركاب صارخاً : " حراااااااااامي " . فإذا بأحدهم ينسل مسرعا بين الأجساد ، يقفز إلي نافذة مفتوحة ، ومنها إلي الشارع . والأتوبيس يشق طريقه متململاً وسط زحام السيارات . ضبطت ذهني شارداً رغم الصراخ في برنامج عمل اليوم ، إنه يوم غير عادي ، والتقرير الصحفي لابد أن يكون غير تقليدي ، إنه عن الثورة في الذكري الأولي لاندلاعها . إنه عن ميدان التحرير الذي لا يزال يحمل عبق العرق والدماء . سألت نفسي : تري ، هل سيعج الميدان بالمتظاهرين ؟ . هل سيغرق بطوفان البشر الهائج كسيرته الأولي ؟ . إنه يوم مثير ، ولن يقل إثارة عن أيام الثورة الأولي ، يوم تجمعت ألوان الطيف البشري من كل حدب وصوب في كل ميادين المحروسة ، علي قلب رجل واحد ، وأصواته تهدر : " عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية " . وتجاوبت معه السماء بزخات المطر ، وزخات الرصاص الحي والخرطوش مجهولة المصدر ، فشل دخان القنابل في قتل الأصوات المنخنقة تحت وطأة سياط القهر والحرمان وهي تهتف :" ارحل .. ارحل " . اختلطت أغاني الميدان بأنَّات الجرحي ، وإغتسلت الأرصفة بدماء الشهداء ، وحبات العرق في ليل الشتاء القارس ، وزخات المطرالتي تهطل من عين السماء الباكية . إنه عرس أسطوري غير مسبوق . أفقت من شرودي علي احتكاك أحدهم بي من الخلف متحرشاً ، فنهرته بعين غاضبة جاحظة ، وشفاه مذمومة تطبق علي كلمات كادت أن تفلت . تخنث وانسل بين الأجساد هارباً . علي إثر ذلك قررت النزول من الأتوبيس في المحطة القادمة ، واستكمال الطريق إلي التحرير سيراً علي الأقدام . أفلت بجسدي من بين الأجساد المتراصة بشق الأنفس ، حتي وصلت إلي باب النزول . ألقيت بنفسي إلي الشارع في نفس اتجاه الأتوبيس ، ورغم ذلك كدت أتعثر ، وأنكفيء علي وجهي كي أمسح الرصيف بلحمي ، لولا يد أحد المارة امتدت لتنتشلني من السقوط ، حتي استويت واقفة . أومأت برأسي له تعبيراً عن الإمتنان ، ورسمت ابتسامة علي شفتي تعبيراً عن الرضا . بادلني الإبتسامة وانصرف. يممت وجهي شطر ميدان التحرير . مرقت إلي أحد الشوارع الجانبية الخالية مهرولة ، هروباً من الزحام الفوضوي الذي تحدثه الأجسام المتدافعة للبشر والسيارات ، واختلاط صراخ الإنسان بعويل آلات التنبيه ، وهدير محركات السيارات بدخان العادم الذي تنفثه المداخن . الشوارع الجانبية تبدو خالية إلا من بعض المارة ، والمحلات تكاد تخلو من الزبائن ، ونادراً ما تصادف سيارة مارة . تبدو العمارات العتيقة شاهقة ، والأشجار العجوزة الضخمة تقف حارسة أمام أبوابها منذ القدم . لم تشغلني عراقة المشهد كثيراً ، فقد كان صوت رئيس التحرير لا يزال يرن في أذني بالحاح شديد عجزت عن التفلت منه . حاولت مقاومة الجوع الذي داهمني فجأة ، ولكن وطأته اشتدت علي معدتي محدثة مغصاً ، لقد نسيت تناول الإفطار كالعادة . أبصرت مقهاً صغيراً ، فتوجهت إليه ، سحبت كرسياً وجلست إلي منضدة دائرية صغيرة . لم أنتبه لتلك الوجوه المتشاغلة بلعب النرد وشرب الشيشة وأكواب الشاي ، فقد تذكرت ما قاله والدي عن الجوع ، عندما كنت أمتنع عن تناول طعامي : " يا بنيتي : الجيوش علي بطونها تزحف ، فلا يصح أن تكون خاوية " . ضبطني نادل المقهي وأنا ابتسم ، فوقف مشدوها لعدم وجود ما يدعوني إلي ذلك ، خاصة وأنا بمفردي ، نظرت إليه فتحولت الإبتسامة إلي ضحكة رغماً عني . عاجلته قبل أن يغادرني غاضباً بطلب كوب من الشاي ، وعلبة من البسكويت السادة . حاولت التشاغل باللابتوب ، وصورة أبي تطل علي ذهني من جديد ، مبتسماً كعادته ، لقد كنت صغيرة عندما وافته المنية ، إلا أن تلك الإبتسامة لم تغادرني معه ، لم أكن أعي معني الموت في تلك السن الباكرة ، إلا أنني عشته مع أمي ، خوفاً بالنهار ، ورعباً بالليل . كنا نلتصق ببعضنا البعض حتي نبدد الوحدة التي داهمتنا بعد وفاته ، نتدفأ من برودتها الموحشة ، نهرب من وحشة العدمية بالإستغراق في العمل . ولعل ذلك هو سر تفوقي الدراسي الذي لا يعرفه غيري . شببت عن الطوق ، وتخرجت من الجامعة ، والتحقت بالعمل الصحفي لا كمهنة ، وإنما كعشق ، حيث تُولَد عندي الكلمات من رحم الألم ، حتي التعبير عن الفرح والسعادة أغترفه من ذات المعين . رحم الله أبي ، ورحم الله أمي التي هرمت فجأة فور تخرجي ، وحطت في فراشها ، كأنها قد فرغت من مهمتها في الحياة ، تناوبت عليها الأمراض ، ويوم رحلت ، جلست بجوارها عاجزة ، أبت الرحيل إلا بابتسامة كتلك التي تركها لي أبي إرثاً لا ينقضي ، ابتسمت لي وطلبت مني الإبتسام ، ثم أسْلَمَت الروح إلي بارئها ، وأسْلَمَتني وحيدة للحياة . انتبهت إلي صوت النادل وهو يتنحنح معلنا قدومه ، نظر إلي وقد رأيت في عينيه خوفاً ، يبدو أنه قد لمح دموعاً تنسكب من عيني ، فظن أني مجنونة ، فقد غادرني منذ لحظات وأنا ضاحكة ، وعندما عاد وجدني باكية . وضع الأشياء علي المنضدة وانصرف متراجعاً بظهره ، فأضحكني مظهره مما زاد من ارتباكه ، وسقط متأثراً بتعثره في إحدي المناضد ، فانفجر المقهي بالضحك والتصفيق والتعليقات المثيرة . تناولت قطع البسكويت مع رشفات الشاي الساخن ، ناديت علي النادل فجاءني آخر ، نقدته الحساب ، وأثناء لملمة أشيائي ، لمحت بطرف عيني سيدة عجوزة ، متقوسة الظهر ، تنقل قدميها بمشقة ، يساعدها عكاز تتوكأ عليه ، ترتدي ثوباً حائل اللون ، تفترشه بقع من الدماء الداكنة . تتوجه إلي صندوق قمامة علي جانب الطريق ، عبثت بعكازها في محتوياته ، ثم انكفأت عليه ، أدرت الكاميرا كي التقط صورة ، استخرجت شيئاً من الصندوق ، تنبَّهَت لوجودي ، ولوجود الكاميرا في يدي ، فأخفت ما التقطته بين طيات ملابسها . رمقتني بنظرة حادة معاتبة كأنها تلومني علي تطفلي ، والتفتت عني منصرفة ، وهي تحث خطاها المتثاقلة علي مغادرة المكان . أثارت نظرتها فضولي الصحفي ، مما دفعني إلي التسلل خلفها للوقوف علي حالها ، وقصة بقع الدم الداكنة الملطخة لثيابها ، دون أن تسترعي انتباه أحد من رواد المقهي أو المارة في الشارع . لم تذهب بعيداً ، فقد ولجت إلي مدخل إحدي العمارات الفخمة ، لم تصعد درجات السلم ، ولم تقف أمام المصعد ، واختفت عن ناظري . أغراني إختفائها باستكمال المغامرة الصحفية ، فدخلت خلفها مسرعة ، تلفت ، فإذ بمدخل صغير يؤدي إلي باب خشبي صغير بجانب المصعد . وقفت أمامه مترددة ، فقد بدأ الخوف يزحف علي مشاعري بجحافله من ذلك المجهول الرابض خلف الباب الخشبي المغلق . تشجعت في محاولة للسيطرة علي انفعالاتي ، واندفعت في تهور ناحية ذلك الباب المغلق ، وطرقته طرقاً خفيفاً عله لا ينفتح . انفتح الباب وكأن هناك من كان ينتظر ، وأطلت في وجهي تلك الملامح العجوز المتجهمة ذات العيون الصقرية الحادة ، تراجعت إلي الخلف فزعة حتي كدت أتعثر ، فامتدت يدها المتجعدة اليابسة وأمسكتني من يدي ، علت تجاعيد وجهها ابتسامة إشفاق كأنها رقت لحالي ، حيث لانت حدة التجاعيد ، ولانت حدة النظرة ، سحبتني من يدي إلي الداخل وهي تئن من وطأة ما تحمله فوق ظهرها من آثار السنين . لم تعد هناك فرصة للتردد أو الهرب ، فقد وجدتني داخل المكان والباب ينغلق . تفاجأت بروائح العطن ولسعة البرودة ، أنا لم يسبق لي دخول قبر من قبل ، إلا أنني أظن أنه لن يفترق كثيراً عن هذا المكان . أثر الرطوبة المهيمنة يتبدي بقعاً جيرية متساقطة من سقف الغرفة ومتآكلة من جدرانها ، بعض قطع الأثاث القديم حائل اللون تظهر بالكاد تحت بقعة الضوء الباهتة الذابلة المنبعثة من مصباح كهربي متدلي من سلك غطته الأتربة والأبخرة . عندما جلست علي الكنبة وجدتني في مواجهة نافذة صغيرة مفتوحة ، تطل علي الشارع ، فلا تري منها سوي أقدام المارين به ، وتلك هي وسيلة التواصل الوحيدة مع الوجود خارج هذه الغرفة ، والكنبة في هذه الغرفة بخلاف الكنبة التي يجلس عليها أعضاء حزب الكنبة أثناء وبعد الثورة . جاءتني من الداخل ممسكة بعكازها الذي يعصمها من الإنكفاء ، وكوب من الماء قدمته لي كي أسترد أنفاسي اللاهثة ، واستعيد به ثبات أعصابي الذي فقدته . جلست إلي جواري ، وربتت علي كتفي في حنو افتقدته منذ وفاة أمي ، وهي تقول بصوت تنتزعه من أعماق السنين : " اشربي يا بنيتي " . يبدو أنها تحاول تهدئة روعي ، بعدها التزمت الصمت الذي لف كل شيء علي نحو موحش ، ووقعت في حيرة من أمري ، ماذا اقول لها ؟ وعما أسألها ؟ . قطعت علي حيرتي التي تبدت علي ملامحي بسؤالها :
كنت أريد أن أعرف عما تبحثين في صندوق القمامة ؟ .
توقعت أن تتردد في الإجابة ، أو يضطرها الموقف إلي الكذب ، واللف والدوران . إلا أنها أصرت علي مباغتتي بما لا أتوقع ، فقد أجابت من فورها :
كنت أبحث عن هذه .
وأخرجت من بين طيات ثيابها قطعة من الخبز الناشف ، وقد اعتلت صفحتها الأتربة والعفونة ، وهي تردد : " نعمة " . وأخذت تحك قطعة الخبز براحتها ، وتمسحها في ثيابها التي تبدو رثة . أخذتني المفاجأة من تلابيبي ، وعقدت لساني الدهشة ، فقد كنت أظنها تبحث عن مخلفات ثمينة في صندوق القمامة . لم أكن أتصور بحال أنها تبحث عن طعام ، فنظرت إليها بنظرة أدركت بحدسها الفطري ما يدور في خلدي ، فإذا بها تبادر إلي القول :
أنا لا آكل من القمامة .
وكأنها تنفي عن نفسها تهمة ، ثم استدركت قائلة :
وإن كان هناك من يفعل ذلك .
ثم استطردت قائلة :
أنا أجمعه كي أبيعه ، ومن ثمنه أتعيش .
ثم نهضت إلي جوال مدسوس تحت الكنبة ، وسحبته ، وفتحت فوهته ووضعت قطعة الخبز فيه ، وكأنها تسعي إلي تأكيد قولها . سألتها :
ألا يوجد من ينفق عليك يا أمي ؟ ! .
ردت بأسي :
مات .
قلت :
زوجك ؟ .
قالت :
لا . حفيدي .
وأشارت بأصبعها قائلة :
هناك . إنه هناك .
وكأني لم أنتبه إلي وجود تلك الصورة المعلقة علي الحائط ، صورة شاب في العقد الثالث من العمر ، تعلو وجهة ابتسامة تتنافر إشراقتها مع قذارة المكان ، وحين تنظر إليه تستشعر أن عينيه تغوصان بداخلك باحثة عن شيء ما لا تدرك كنهه . هززت رأسي في إشارة إلي الفهم . إلا أنها واصلت الكلام وكأنها مدفوعة برغبة مدفونة في الفضفضة والبوح ، وأن ذلك سوف يريحها ، ربما لأنها لم تجد من يسمعها ، ورغم مقاومتها للعبرات بإرسالها عينيها إلي الأشياء كأنها تشاركنا الحديث قالت بصوت متهدج :
مات أبويه وهو لا يزال طفلاً ، وتوليت أنا احتضانه وتربيته وتعليمه ،حتي اشتد عوده واستوي ، وتقوس ظهري وانحني ، كنت فرحة بكونه يكبر أمام عيني .
توقفت عن الكلام بعد أن غلبتها العبرات وفرت من عينيها ، وجعلت تمسحها بطرف ثيابها ،ثم استطردت قائلة
كانت نكبتي الحقيقية بعد تخرجه .
تساءلت في دهشة :
لماذا ؟
قالت :
سُدَّت في وجهه كافة السبل المتاحة للعمل ، وبالتالي مات بداخله أمل الخروج من البدروم إلي سطح الأرض حيث يعيش البشر في الأجواء الطبيعية ، أما التفكير في الزواج فلا محل له في حياته تلك .
قلت :
إنها مشكلة جيله .
عاجلتني بقولها :
بدأ يخرج كثيراً ، ويتغيب عن البيت فترات طويلة ، ولا يعود إلا في وقت متأخر من الليل .
قلت :
وماذا في ذلك ؟
قالت :
بدأت أشعر أن دوري في حياته قد انتهي .
قلت : ثم ماذا بعد ؟ .
قالت :
في ليلة ليلاء أخرجت نقوداً كنت قد ادخرتها من مخبئها ، ونقدته إياها كي يشتري لي كفناً . لم أندم في حياتي قط علي فعل فعلته بقدر ندمي علي هذا الفعل .
استثار الكلام فضولي ، فتساءلت :
لماذا ؟
قالت :
احتضنني وتشبث بي تشبث الطفل بأمه خشية فقدها ، وبكي كما لم يبك من قبل ، من ليلتها وهو لا يغادرني إلا نادراً .
تساءلت :
كيف مات يا جدتي ؟
قالت :
أنا لا أدري كيف مات ؟ . ولكنه في مثل هذا اليوم من العام الماضي ، أمضيت الليل بطوله في انتظار عودته ، إلا أنه لم يعد . في الصباح زرعت الشوارع جيئة وذهاباً دون أن أعثر له علي أثر ، عدت إلي هنا عله يكون قد عاد ، إلا أنه لم يعد .
أومأت لها برأسي أستحثها علي الإسترسال ، فاسترسلت :
وجدت شاباً يجلس أمام العمارة واضعاً رأسه بين كفيه ، عيناه زائغتان ، يتفحص الوجوه . لم أعبأ بوجوده فلدي ما يشغلني ، فإذا به ينادي علي ، فالتفت إليه ، فقال :
إنه أصيب في ميدان التحرير في المظاهرات .
فوقع قلبي في أخمص قدمي ، قلت له :
اصدقني القول .
قال :
لقد أرسلني إليك كي أطمئنك ، وأصطحبك إليه .
استوقف الشاب تاكسياً ، وانطلق التاكسي كالسهم من الشوارع والتفريعات الجانبية ، حتي وصل إلي المستشفي . جريت إلي الداخل كأني عدت شابة ، ذابت آلام العظام وهشاشتها ، وآلام المفاصل ،ووجدتني أقفز الدرجات قفزاً ، والشاب يلهث من خلفي . تساءلت في لهفة :
أين يا بني ؟
جرني من ذراعي ، وتوجه بي إلي داخل مكان به ثلاجات ، فتح الشاب إحدي الثلاجات ، وسحب أحد الأدراج ، فوجدته هناك . كان ممدداً ومغطي الوجه ، فكشفت غطاء الوجه ، إنه هو . لم أصرخ ولم أهتز ، ولكن شعرت بصرخة صامتة زلزلت هذا الكيان العجوز ، صرخ كياني في الكون بصمت : " لماذا ؟ " . أخرجوني وقد عدت عجوز مقوسة الظهر أتوكأ علي عكازي الذي يعلن صوته أنه ما زالت هناك حياة . طلبت من رفقائه أن يعودوا به إلي البيت أولاً قبل أن يواري الثري ، فعادوا به . ثم رجوتهم أن يتركوني معه ساعة ففعلوا . تمددت إلي جواره علي تلك الكنبة ، احتضنته ، واضعة رأسه في صدري . لقد اعتدت علي تذوق كأس الموت الملحي المُر ، إلا أن هذه المرة تجرعته كله . لم أدر كم مضي علي من الوقت وأنا علي هذه الحال ، غير أنهم دخلوا ، وانتزعوه من بين أحضاني انتزاعاً . أسرعت إلي كفني كي يجهزوه به .
خنقتها العبرات فتوقفت عن الكلام .
لف الصمت المكان ، ولم أتمالك أنا الأخري نفسي ، ووجدتني أنتحب علي رجع انتحابها . اخْترقْتُ جدار الصمت المشحون بالشجن ، وسألتها :
ما تلك الثياب الرثة الملطخة بالدماء ياأمي ؟ ألا تغسلينها ؟ ! .
فإذا بها تفزع لسؤالي ، وتهرع إلي القول :
لا . أنا ثيابي نظيفة . انظري .
وجعلت تكشف عن ثيابها ، وهي مسترسلة في قولها :
أما هذا الجلباب فعليه دماءه .
قلت مستغربة :
لماذا تلبسينها ؟ .
قالت وهي تؤكد كلامها بالضغط علي مخارج الحروف :
إنه يؤنسني في وحدتي .
رن جرس الهاتف ، فإذا برئيس التحرير يطمئن علي المهمة ، فاضطررت للكذب مدعية وجودي بالميدان . أغلقت الهاتف ، ونهضت علي استحياء ، سألتها بعد تردد :
أصرفت النقود المقررة لعوائل الشهداء ؟
قالت بأسي :
كلام .
قلت لها :
ألك حاجة ؟
قالت :
القصاص كي تستريح عظام القبر في رقدتها .
نهضت علي أقدام لا تكاد تحملني ، واستدرت تجاهها ، ووجدتني انحني حاضنة رأسها بين كفي ، وأقبلها . أمسكت بيديها الواهنتين وقبلتهما ، قلت لها :
أنا أشعر أني مدينة لك بالإعتذار ، ولا أدري ماذا أفعل لأجلك ؟ .
..............
استطردت قائلة :
أنا أعيش بمفردي ، تعالي معي .
قالت :
لا . هنا روحي وعمري .
قلت :
أريد أن افعل أي شيء لأجلك .
قالت :
طُلي علي من حين لآخر .
مددت يدي داخل حقيبتي ، وأخرجت ما كان فيها من نقود ، وأمسكت بيدها ، فسحبتها وهي تشيح بوجهها عني . فأعدت النقود إلي الحقيبة . مدت يدها تحت الوسادة ، وأخرجت مفتاحاً وضعته في يدي قائلة :
طُلي علي .
قلت :
أكيد .
جذبتني إليها ، واحتضنتني طويلاً ، ثم دفعتني عنها للخروج . خرجت بظهري ، وأنا أري ملامح أمي تنطبع علي ملامحها . والعيون تمتد أشعتها مودعة . خرجت وأنا أشعر أني قد تركت جزءاً مني لديها ، قد يكون قلبي ؟ . ربما .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.