(1) أبي حين أيقظني أبي لأنتقل من مكاني إلي مكان نومي المعتاد, سألني إذا ما كنت أحلم ونحن في أول الليل, فقلت: لا سألني لمن كنت ألوح بيدي وأنا نائم إذن؟ فقلت: لمرضي في عيادة أندراوز, كنت أفحصهم بسماعة في أذني, وكانوا كثيرين, إلا أنهم كانوا يميلون أولا علي نعمات الملط, يسألونها عن أندراوز, قبل أن يمثلوا مترددين بين يدي. وما إن انتهيت من فحصهم حتي تراقصت أجسادهم من الفرح ولوحوا لي بأيديهم التي كانت معتلة في الهواء, فابتسمت لهم. في الصباح ظهرت نتيجة الثانوية العامة, فبوغت أبي غير أنه لم يفصح عن مخاوفه إلا في اليوم الثالث, وبدا في أثناء استقباله للمهنئين علي حصيرة مفروشة في مدخل الدار مرحبا وممتنا, يستعجل أمي من الداخل بالشربات بفرح, وهم يربتون كتفي بإعجاب ويتأملون بوص السقف, وقد ازداد عددهم وامتدت التهاني علي غير العادة إلي اليوم الثالث الذي كان أكثر هدوءا, فطال نسبيا مكوثهم علي حصيرة الصيف, وقد انتشر في البلدة كلها أن لدي أبي ولدا سيدخل كلية الطب. حين فرغت الدار من المهنئين, وكانت أمي بالداخل, صارحني بأنه يخشي ألا يتمكن من الصرف علي في أثناء الدراسة, وقد أرعبه البعض من مصروفاتها الثقيلة, وسألني عن رأيي في كلية تكون مصروفاتها في مقدور عامل بسيط في السكة الحديد, في رقبته خمسة آخرون, لم يرث سهما واحدا, وإن كان علي استعداد أن يبيع جلبابه من أجلي. لم تغب النظرة التي لمحتها في عينيه عن ذاكرتي, إذ سقطت في الحال, ولم أفق إلا في عيادة أندراوز, رغم حرص كلينا علي ألا تتكرر هذه النظرة: هو بمحاولاته المستميتة أن يثبت عكسها طوال سبع سنوات, فلا يتأخر مرة واحدة في تدبير ما يلزم من مصروفات, وأنا حين أطلب منه ما هو ضروري بحذر وعلي مراحل وبلا مباغتة. في الهزيع الأول من الليل أفقت علي هزات هادئة لكتفي, فتحت عيني, فقال مبتسما أين كنت؟ قلت في مكتبة مفتوحة علي شباك جانبي, وبحثت في جيوبي عن نقود تسلمتها بيدي منذ قليل من أسفل حديد الشباك الذي كان يشبه شباك مكتب البريد, فلم أجدها, فابتسم وأمرني بالانتقال الي الفراش وقال لأمي إنني ولد غريب, تجيئني الأحلام في الهزيع الأول من الليل, وأكد لها أن روحي تنفصل عن جسدي النائم, وتسبح في الفضاء, وأنه وضع أذنه علي صدري متسمعا دقات قلبي وحركة تنفسي, فلم يظفر بشيء. وحذرها أن يوقظني أحد بعنف, أو فجأة في أثناء الحلم حتي لا تضل روحي في أثناء عودتها, فأموت. عاودتني نظرة اليوم الثالث في ردهات الكلية, وتجسدت مرة واحدة كل المخاوف التي باغتت أبي, فأوشكت علي السقوط, ولم يكن أمامي سوي كتابة الطلب, فسألني الرجل بحنو شديد لماذا أفكر في التحويل الي كلية أخري, فلم أرد, وكان يشبه كثيرا الرجل الذي رأيت ملامحه في الحلم, فأجلسني الي جواره ونحي الطلب جانبا, ثم كتب بخط صغير علي ورقة: مفردات مرتب الوالد أو شهادة وفاته, وشهادة عدم حيازة أراض, وشهادات ميلاد أخوتي, وحين أحضرت له ما طلب, أخذه دون أن يفتحه, وفتح بابا جانبيا وقال خذ ما تريد من الكتب علي أن تردها للمكتبة في نهاية العام قبل الانتقال إلي السنة التالية, ثم أشار الي شباك جانبي, ظللت أتسلم منه عشرة جنيهات شهريا, حتي اجتزت السنة النهائية باشتراك مجان تماما في القطار, وسكن في مدينة الطلبة, بخمسة جنيهات وخمسة وخمسين قرشا كل شهر. منذ جلوسي علي مقعد الطبيب في عيادة أندراوز, لم تعد تأتيني الأحلام ببساطة, لكنني كنت أراه من ظهره فقط في الهزيع الأخير من الليل صاعدا علي سقالة مائلة, علي كتفه رصة من الطوب, يسندها بيد وفي اليد الأخري قالبان, بينما يقف في أعلي الجدار صبحي البنا, بالخيط والمسطرين والميزان. لم أره مرة واحدة من وجهه, حتي في لحظات نزوله عن السقالة, فيما كان وجه صبحي بالغ الوضوح. لم تغب مناوشات الهزيع الأخير من الليل, تلك التي تأتيني كرسالة غير واضحة, يدخل بها ملاك من ثقب الباب في أثناء نومي, فأتذكرها في الصباح, وقد ظللت أسأله بإلحاح أين كان يقضي. طوال سبع سنوات. أيام راحته من العمل في السكة الحديد, فيقول: مع أصحابي, فأسأل: تخرج في الصباح, ولا تعود الي الدار الا بعد العصر؟ فتتلألأ الدمعة في عينيه, ويدير وجهه, ويجيب ككل مرة بضجر: يعني بكون فين بس يا ابني؟ بكون مع أصحابي. (2) مريم أرحت رأسي علي زجاج الأتوبيس, وتمنيت أن تظل الإشارة مغلقة حتي تنتهي الأغنية القادمة من راديو المقهي. ثلاثة أيام ومريم لا تجئ إلي الكلية, أفتح باب أروقة الدروس وعنابر المرضي فلا أجدها. هفت روحي إليها وسالت دموعي, واعتملت في صدري أشواق لم أحسها من قبل, فهل كانت دموعي غزيرة حتي يهزني الرجل علي الكرسي المقابل؟ إيه يا ابني؟.. فيه حاجة؟.. تعبان؟ أطرقت برأسي, فتصاعد اللحن وتكاثف: بإيدي سلام وعيني سلام وقلبي سلام. كانت ملامحها قد تغيرت عندما أنهينا فحص المريض الممدد علي طاولة الدرس وحسم أستاذ الباطنة أمره بشكل مفاجئ: ليس لدينا ما تفعله.. كما ترون.. هذه الحالة تندفع بسرعة نحو النهاية. قالها بالإنجليزية, فأدارت رأسها في ذعر, وبحثت عن كرسي حتي لا تسقط, وكان بإمكاني أن ألاحظ أنها لم ترفع عينيها عن الولد يونس المصاب باستسقاء في البطن, فخمنت سبب الغياب. فتحت لي باب الشقة. كان شعرها الأسمر ناعما وملموما خلف رقبتها ذيل حصان والشريط بلون الثوب تلفه حول رأسها وبدت عيناها الواسعتان لامعتين وبريئتين. قالت: أهلا بارتباك ثم دخلت المطبخ, فلماذا توقعت أن تعد ليمونا؟ كأن الأب في الصورة المثبتة علي الحائط غائب أو ميت. صورة وحيدة مصفرة, كأنها أخذت من مجلة قديمة لشاب لا يتعدي الثلاثين, بينما الأم في صورتها الملونة هادئة وبسيطة, كأنما لا تفكر في شئ. سألتني باستغراب وهي تقدم الليمون كيف وصلت إلي العنوان, فأطرقت برأسي, ولم تكن كما رأيتها في الحلم لثلاث ليال متتالية بتاجها الذهبي مكتملة البهاء فقلت إن ثمة تاجا لابد أن يكون هنا, وأشرت بيدي فابتسمت علي المجاملة, قلت إنني لا أجامل, فقد كان موضعه خاليا بشكل يدعو للدهشة, فدخلت حجرتها ثم جاءت بتاج ذهبي مستغربة أنها لم ترتد هذا التاج أمام أحد. نوسة مات.. صح؟ فاجأتني صيغة السؤال وعيناها التي تنتظر الجواب. كانت تشعر أنه مات, لكنها تريد لحكم الأستاذ ألا يتحقق. أومأت برأسي, فتراجعت شفتاها عن الابتسام, وتقلصت ملامحها, وكبحت دموعا أوشكت أن تطفر. هرعت إلي الحمام حيث اختلط النشيج المكتوم مع صوت المياه. بعد قليل عادت مبتسمة كأنها مريم أخري غير التي كانت تبكي منذ قليل, واعتذرت عما سببته لي من كآبة. كانت الصورة الملصقة علي باب غرفتها المغلق مأخوذة من الخلف لطفل يتبول في غابة أشجار كثيفة. كانت مؤخرة الطفل بلا سروال, وتيار الماء يندفع إلي جذع الشجرة بينما الطفل لا يعبأ بأي شئ. كان بإمكاني تحديد عمره من دون رؤية الوجه. أربع سنوات ليس أكثر. كان حافيا علي العشب, مطمئنا وجميلا, تضيئه بقع الشمس. بدا جمال اللوحة وسحرها في اختلاس اللقطة من الخلف, فقالت: فيم تفكر؟ قلت إنني أفكر في نوسة الذي لم يكن يفكر قبل الدرس أنه سيموت, وكنا نسأله أنا وهي عن بداية المشكلة, فقال إنها بدأت حين رفع ذيل جلبابه وتبول لأول مرة علي حائط الدرب, فقد هرع النسوة وتكالبن عليه فانقطع التيار, ومدت أمه يدها وجذبته إلي الداخل في لهفة, وخلعت جدته فردة الحلق من أذنه اليمني, وزغرد حسين بيبرس الخياط وهو يفصل علي عجل جلبابين أولادي مخططين وأخذ فردة الحلق من الجدة وقال إنها الآن له, وجاء الحلاق فقص شعره الطويل وأخرج الموسي والبوصة وبدأ الختان, وأوقدت أمة الكانون ووضعت اللحم. ابتسمنا ولم نشأ أن نقاطعه, فقال إنه ليومين ظل يبكي وهم يضحكون لأن نذر جدته التي أسمته نوسة كي يعيش, وأدخلته سبع مرات من طاقة سيدي عبد الله, ظل مؤجلا خمس سنوات, يجوب الشوارع خلالها بالفساتين وقرط الجدة يتدلي من أذنه اليمني, حتي رفع ثيابه وتبول علي الحائط. لكن ما آلم مريم علي وجه التحديد أنني سألته صراحة عما يؤلمه, فتجاهل استسقاء البطن, وبكي وقال إن اسمه الجديد لا يروق له, ولا شعره القصير, ولا هدوم الصبيان, ثم بدأ الدرس. سألتها متي ستعود إلي الكلية, فقالت في هدوء إنها لن تكمل الدراسة! ألجمتني الدهشة, فقالت إنها لم تعد تحب المستشفي ولا أستاذ الباطنة الذي يتكلم عن فقد إنسان لحياته بهذه البساطة, وقالت إنها لم تتألم من كلام الأستاذ بقدر ما تألمت للنظرة الحائرة في عيني الولد والتي بدت فجأة يائسة حين ألقي الأستاذ بحكمه, وأقسمت أنه فهم. قالت إنها قد تكون حالمة, تبحث عن حياة بلا مرض أو معاناة, حياة عادلة وخيالية مما يفجع ويؤلم, تتناسب وعقودها البسيطة, يتفتح الناس فيها كنوار ثم يذبلون متي حان وقت السقوط, بلا معاناة كما تنطفئ المصابيح, لكن الواقع أيضا لا يجب أن يكون بهذه الفجاجة. رفضت مريم استكمال دراسة الطب كأنها ترفض ارتداء فستان, كانت تتناقش بهدوء وبساطة توحي بأنها ستتراجع, حيث تحدق في السقف كأنما لا تشعر بوجودي وتقول إنها كانت متيقنة أن نوسة الذي كنا نفحصه قبل ثلاثة أيام خرج من المستشفي علي ظهره, ولعله الآن يحلق في سماوات فسيحة بالفستان والقرط, لكن ما يشغلها الآن هو من الذي سيكون عليه الدور من أولئك الجالسين في الشرفة الكبيرة بهدوم كالحة وعكاكيز يتكئون عليها أو مقاعد متحركة في بطء يتطلعون للخروج من الأسر, والتخلص من وخز الإبر والقساطر والمناظير ومرارة الأدوية وصراخ الشغالات, بينما لا يعلمون أنهم مندفعون وبسرعة نحو النهاية. كان الكلام ينساب من بين شفتيها مؤلما كنزيف, وحين توقفت لم أتبين إن كانت قد استراحت أم أفرغت دمها كله, لكنني صرت متأكدا أن قرارها بالتوقف عن الدراسة نهائي. البقية الاسبوع القادم