تتعدد المداخل من عام لآخر ومن لحظة لآخرى فى التعامل مع حدث أو موقف معين، وهو نفس الوضع بالنسبة ليوم 6 أكتوبر بشكل عام وربما فى هذا العام بشكل مختلف. ولا يأتى الاختلاف هذا العام من الدعوة للغناء للجيش أو ضده، أو بحكم الانقسام والجدل الصاخب الدائر فى تلك اللحظة بقدر ما ترتبط أهمية اليوم بما حدث فى ماضى العبور وما مر به الوطن فى ماضى الثورة القريب وما هو قادم من أيام لازالت محملة بفرص ومخاطر. ورغم أن الجيش له مكانته الخاصة للغاية بالنسبة لى والتى يفترض فى أحداث بقيمة 6 أكتوبر أن تضعه فى الواجهة، إلا أن النقاش هنا يتجاوز تلك النقطة السابق الإشارة إليها فى مواقف أخرى تخص الجيش كجندية وما هو دور للجيش فى السياسة وإشكاليات هذا الدور على أرض الواقع. أن تحرر الأرض إنجاز لا يمكن تصويره بالكلمات، لأنه يحمل فى داخله معنى الوطن ومكانته وقيمته، ويحمل معنى المواطن ابن البلد والقيمة والكرامة الواجبة لهم وللعلاقات بين الوطن وناسه. ولأن الوطن ليس مجرد كلمة كما يقول محمود درويش فهزيمته أو انتصاره ليس مجرد كلمة أو كلمات ايضا. فى ظل احتلال الوطن أو جزء منه ترتفع أصوات المعركة التى لا يعلو فوقها صوت آخر، ويصبح التحرير سقف الحلم حتى تصل إليه وحينها -ان لم يكن بالتوازى مع معركة التحرير- يفترض أن تبدأ فى إيقاظ أحلامك الأخرى المؤجلة للفرد والوطن، أو أن تبدأ الأحلام نفسها بالتوالد من رحم اللحظة وكأن الميلاد نتاج طبيعى للتحرر من سنوات المعاناة والانتظار الطويل والمر.. كما أن تحرر الأرض يعنى أن يتحرر الانسان وأن يدرك قيمة الحرية فى ذاته وأنه لا يطلب كجندى فى معركة بالسلاح على الحدود فقط، وأن دوره لا ينتهى فى علاقة قصيرة الأجل يحمل فيها السلاح أو ورقة الانتخاب. المواطن دوره لا ينتهى عند رفع العلم أو الإدلاء بصوته وتأدية شخص ما للقسم. والتحرير يعنى أن يطلب كمواطن فى معركة للكفاح من أجل الوطن الكبير ومن أجل ذاته ووطنه الصغير ممثلا فى عائلته ومن يهتم بأمرهم، وان يطلب فى تلك المعركة يعنى ان يكون مواطنا حرا له حقوق كما عليه واجبات. عندما يتحرر الوطن ويتحرر الانسان بمسئوليته ودوره وواجبه وحقوقه تكتمل فى تلك اللحظة قيمة الحرية والتحرير، ويتجاوز المشهد لحظة عبور فقط رغم كل قيمتها التى تتجاوز الزمن، وتتجاوز كلمات أغنية حماسية من أم فقدت أبنها وهى تشدو لأم البطل، أو أغنية فرح حقيقية تحمل مشاعرها عبر العقود وكأنك تشاركهم الجلسة وربما تعزف معهم على الربابة وتسجد مع الساجدين والعلم يرتفع على الأرض شكرا وحمدا... تتجاوز كل هذه المشاهد الساكنه فى الذاكرة إلى مشاهد بناء مستمر لوطن وانسان، ورحلة عبور من خط بارليف لخطوط الفقر والعشوائيات وسلالم الفساد وجراح الاهمال ومرارة الظلم.. تتجاوز حياة الوطن لحظة العبور الأول التى تمت فى الماضى مرات ومرات لضرورة عبور أخر يفترض أن يتم بشكل حقيقى فى المستقبل بعد ان تأخر لعقود ليصبح جزء من تاريخ وصورة وأغنية وحلم لا يغادرنا ولكنه يعاتبنا من عام لعام لأننا لم نتمسك به ولم نجعله حقيقة كحقيقة عبور القناة. تحررت الأرض ولكنها ظلت مهملة، وتحررت الأرض ولكن المواطن لم يتحرر وأنتهى دوره على الحدود وعاد ليمارس دوره كترس مطحون فى الوطن.. تحررت الأرض ولم يتحرر الوطن بمعناه الكبير ولم يتحرر الفقر بل زاد ولم يتحرر الفساد بل انتشر ولم ينمو الوطن من أجل عموم الشعب ولكن من أجل البعض.. مرت بمصر مياه كثيرة أحيانا، تحركت فى بعض الأدوار وامتدت لبعض المناطق ولكنها للبعض الآخر ولمناطق أخرى كثيرة كانت مياها راكدة غير صالحة للاستخدام الأدمى ولا لتنمية الشعور بالوطن.. كانت دوما صالحة لتنمية القهر والظلم وبناء الكثير من الأسوار الداخلية التى تتجاوز بارليف، فتفصل بين الوطن بمعناه المفترض والمواطن بمعناه المفترض أيضا... وعلى ما يبدو ان الوطن والمواطن جزء من أحلام العبور المؤجلة والتى لم تنمو كما كان يفترض بها منذ عقود. ركدت المياه كثيرا وزاد الغضب منها، ومن أشياء كثيرة تسبب فيها جريان المياه للبعض وفى بعض المناطق فقط ضمن أسباب واعتبارات أخرى، ووصلنا إلى يناير 2011 الذى تصورت مع البعض أنه فرصة أخرى لعبور مؤجل ولحظة لإيقاظ الأحلام المنتظرة وميلاد أحلام جديدة على المشهد الممتد من أقصى الوطن لأقصاه.. ولكنها كانت أشبه بالحلم فى جريانه السريع واحتمال أن يتحول إلى كابوس أو شبه كابوس كان يتعاظم أحيانا ويقل أحيانا أخرى وكأنه يختبر قدرتنا على الصمود فى معركة الثورة. تقلصت أحلام يناير مع الوقت وأصبحت سيناء ضمن خط المواجهة ولكن ليس المواجهة الخارجية بالضرورة فى تلك المرة... ومرت أيام وأيام والتساؤلات دائرة حول حقيقة ما يحدث فى سيناء الأرض التى استعادها دم الأجداد والأباء، ولكن رغم قيمة الأرض والوطن ولحظة التحرير ومكانة السؤال لم تكن هناك إجابات كافية وفى أحيان كثيرة لم توجد إجابات أصلا وكأن الموضوع لا يستحق التعليق كما قال متحدث رسمى للرئاسة يوما فى الماضى القريب معلقا عن الأخبار التى تتداول عن سيناء وأمنها ووحدتها. مع الأحلام المؤجلة من ماض بعيد لماض قريب لتحديات قائمة يظل المستقبل وعلى عكس الواقع محملا بالحلم. ولازلنا فى حاجة لعبور يستكمل عبور خط بارليف بعد كل تلك العقود ليعيد الوطن والمواطن إلى ما كان يفترض أن يحدث بعد التحرير فى عودة متاخرة لحلم لا يفترض أن يموت بتحرير الأرض والانسان. تعود ذكرى أكتوبر وسيناء وغيرها من انجازات الوطن للواجهة كل عام ولكنها دوما حاضرة، والحلم قد يتوارى ولكنه يظل قادرا على الميلاد من وسط اليأس والإحباط، والمهم أن نتمسك به كل يوم ونؤكد أنه قادم يوما ونبدأ منه رحلة عبور وتحرير حقيقية تتحرر من أعباء الماضى وميراثه الثقيل. وحتى يتحقق الحلم يظل لأبطال العبور ولسيناء من عام لعام عيد منتظر ولمصر عيد حضر بعودة سيناء ولكنه لن يكتمل بدون أن تكون سيناء وكافة أرجاء مصر جزءا من وطن لمواطن حر قادر على عبور أمراض الماضى والحاضر من أجل بناء وطن حقيقى وحر ومتقدم.