يوجد لدى الناس رغبة طبيعية في النسيان؛ فالنسيان سلاح شديد الفاعلية للبقاء، خاصةً لمن كان واقعه مؤلمًا، وكلما كان الواقع مؤلمًا وكان النسيان صعبًا؛ زاد الشقاء، وأصبح النسيان حلما بعيد المنال، ودواء يصعب العثور عليه للقلب الجريح والذاكرة التي أتعبتها الحوادث. ولكن النسيان في جانب آخر من الصورة؛ يمثل مرضًا وآفةً، في حين أن الذاكرة الحية هي النبض المرتبط بالقلب، والتي تعني أن الجسد حي، وأن الموت منه بعيد. هل هي مفارقة فلسفية؟ أم مجرد تلاعب بالكلمات؟ أم صورة متناقضة لصور مختلفة؟ والإجابة هي زوايا مختلفة للرؤية، سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع. فمن جانب؛ نمر جميعًا بأحداثٍ مؤلمة، نرغب في النسيان أحيانًا، ونعيش مع الذكرى ونستأنس بها في معظم الأحيان. والأفراد لديهم طرقهم للتعامل مع الأحداث المؤلمة، ما بين التناسي والتعايش. نفقد أحبابًا وأعزاءً فيكون النسيان جزئيًا، والتذكر جزء من حق من رحل عنا، وجزء من محاولتنا للتعايش عبر الذكرى، وكلما كان الشخص عزيزا؛ كان التناسي وسيلة تعايش واستمرارا؛ لأن النسيان المطلق صعب إن لم يكن مستحيلًا، ولأن النسيان إهانة لمن رحل، وانتقاصا لقيمته لدى من فقد؛ فيبقى الوجود والاحتضان الداخلي جزءا من حق من رحل، وجزءا من حق أنفسنا وواجبنا تجاه من نحب. ولكن لأن الأحداث الكبرى - أو المؤلمة - ليست دومًا فقد عزيز؛ فإنها تترواح في التعامل معها ما بين التناسي والنسيان ومحاولة المحو الكامل من الذاكرة، وأحيانًا كثيرة يكون النسيان دواءً - كما سبق القول - لا يمكن الاستمرار دونه، وتكون محاولة الاستمرار دونه مؤلمة كونها تؤدي لإعادة الإحساس بالألم مرات ومرات. وبعيدًا عن الأفراد؛ فإن الشعوب والدول تمر هي أيضًا بأحداث مؤلمة أو مفصلية وتاريخية؛ رغم ما فيها من ألم يختلط أحيانًا بالأمل؛ كحالة الثورة من أجل المستقبل، ومن أجل استعادة الوطن. وللأوطان أيضًا ذاكرة، وتلك الذاكرة ليست رهنًا بفرد، أو حكرًا على جماعة؛ كونها ملكا للوطن في ماضيه وحاضره ومستقبله، ومن شأن تهميش التاريخ وإسقاط أجزاء منه إلى غياهب الذاكرة أن يموت جزء من حياة تلك الدولة، ويستقطع بعضًا من ماضيها؛ فيأتي البناء التالي مشوهًا حتى وإن ظهر للعيان سليمًا كامل الأركان؛ ففي أول اختبار ستبدو الشقوق واضحة لكل من تغاضى عن وجودها، وسيظهر الخطأ الذي ارتضاه الجميع بالتغاضي عن الماضي ومواجهة الذاكرة. في حالة الأفراد؛ قد يكون النسيان حلًا، ولكن في حالة الدول؛ النسيان آفة ومرض خطير لا يمكن التقدم به. في حالة الأفراد تكون الذكريات الفردية- الداخلية وسيلة لحبس الفرد في حزنه وماضيه أو ألمه، ويكون التحرر منها ضرورة للاستمرار، ولكن في حالة الشعوب يصبح من الضروري المواجهة، فالألم مقسم على الجماعة، والخطأ موزع على الجميع، والهدف بناء الحاضر والمستقبل على أسس واضحة تنظر للماضي وما حدث فيه من أخطاء، وتضعه نصب أعين الجماعة في طريقها للمستقبل. وفي أحيان أخرى؛ يصبح الهم الشخصي جزءا من الهم العام، تمامًا كما شهدت أحداثا كثيرة جاءت مركزة في عام 2011، الذي أراه عام التسونامي بامتياز، فمن تسونامي الثورات لتسونامي الطبيعة؛ وفي كل الحالات، ومع اختلاف الأسباب؛ كان هناك الكثير من الألم والضحايا، والكثير من الذكريات الفردية المختلطة بالوطن؛ ليصبح حزن الفرد وألمه جزءا من هم الوطن ومحنته. أتوقف في تلك الأيام التي تدشن نهاية العام أمام صور كثيرة لما شهده العام من أحداث خلال العام، وأستدعي للذاكرة أحوال الكثير من الأسر التي فقدت عزيزًا، أو أحوال المصابين الذين لن يكون بإمكانهم رؤية شمس العام الجديد، وهؤلاء الذين قد يرونه ولكنهم لن يشعروا بمقدمه، ولن يختلف عن سابقه من أيام بعد غياب الأحباب. أتوقف أمام برامج التلفزيون وهي تنقل حكايات عن أسر عانت من التسونامي الذي ضرب اليابان عقب زلزال مارس 2011، سواء أكانت تلك الأسر فقدت أفرادا منها، أو فقدت موطنها، أو فقدت ممتلكاتها...وكلما رأيت صورة شعرت بالألم والحزن، ولكن عندما تقارن الصور؛ تبدأ درجات مختلفة من الأسود والأبيض في الظهور؛ فكل منهم - رغم كل الأشياء - لديه ما يبقيه ممتنًا للحياة، وللبقاء على قيدها ، حتى من فقد أفراد أسرته يرى أن عليه مهمة، وأنه قدم يومًا عهدًا لأفراد أسرته بعمل شيء ما، وأن عليه أن يسعى للاجتهاد والعمل من أجل تنفيذ هذا العهد، أو أنه ممتن للذكريات التي تركوها له، وسيعمل على أن يجتهد كنوع من العرفان بالجميل، والشعور بوجودهم في حياته حتى بعد الرحيل. أتذكر دومًا تصوري الخاص عن فقد عزيز؛ فالفقد الحقيقي ليس في لحظة الموت الفعلية، ولكنه في لحظة الموت داخلنا، عندما نقرر النسيان بالمطلق، والسير في حياتنا دون صور من أحببنا، ودون الذكريات التي تبقيهم أحياءً داخلنا وفي واقعنا. أتوقف أمام من يتساءل: لماذا ينقلون تلك الصور مع مقدم العام؟ أليس هذا وقت الاحتفال؟ لماذا يحولون الأعياد إلى دراما؟ وأتعجب من حالهم، هل غابت الإنسانية عنهم إلى هذا الحد، وأليس هذا الهم مشترك إنساني؟ وأليس من حقهم علينا أن نتذكرهم في كل وقت؟ وإن لم يكن من الممكن أن نتذكرهم دومًا بفعل مشاغل الحياة؛ فعلى الأقل نتذكرهم موسميًا، ونشارك من لا ينساهم أبدًا علنًا بتلك المشاركة نقدم لهم بعض العزاء. وأنتقل من صورة ضحايا تسونامي الطبيعة لضحايا تسونامي البشر، الذي مازال مستمرًا، فعلى عكس تسونامي الطبيعة؛ يمتاز تسونامي البشر بأن مدته أطول وعداد ضحاياه مازال مستمرًا. ومع مقدم العام الجديد تتذكر اليابان ضحايا عام شهد واحدة من أسوا الكوارث في تاريخها، بحكم الأثر والضحايا، وحالة التعقد التي صاحبته، تعرف عدد الضحايا ممن مات ومن فقد، وإن كانت عملية الإعمار مازالت قائمة وممتدة. وفي مصر ندخل العام الجديد ونحن لا نعرف بعد؛ هل اكتفى تسونامى البشر بما حدث خلال عام؟ أم سيزيد عدد ضحاياه؟ وهل سيأتي العام الجديد بلون الشمس الحمراء؟ أم بمزيدٍ من الدماء؟ ولكن ونحن ندخل العام؛ علينا أن نتذكر، وأن نمضي الليلة ونحن نشاهد صور الضحايا وحكايات أسر الشهداء، وأن نتذكر الدماء التي سالت على أرض الوطن من أجل أن نرى شمس العام الجديد بشكل مختلف، وعلى أمل أن يأتي اليوم الذي سيكون بإمكاننا أن نروي قصص التضحية من أجل وطن عشنا نحلم به، ونرجوه؛ عندما يصبح واقعًا نعيشه ونستمتع به. في كل الأحوال؛ يمثل عام التسونامي في كل صوره حالة تذوب فيها الفواصل بين الألم الشخصي والألم العام، ويصبح فعل النسيان خيانة للوطن، ولمن رحل، وللمستقبل، ولأجيال قادمة، تذوب الفوارق بين أسر الضحايا والشهداء والمصابين، وبين الجموع التي لم تصب بشكلٍ مباشرٍ؛ لأن المصاب وطن، والجريح وطن، والحزين وطن. يمثل عام التسونامي حالة تقتضي منا جميعًا التذكر؛ فالاحتفال لن تتم أركانه بالنسيان، فكما هو واجب أن نتذكر من نحب، ولأننا نحب الوطن؛ فإن ضحايا الوطن هم أيضًا أعزاء، وتذكرهم واجب علينا، ولن يكون العام عامًا بدون كلمة شكر وتحية وتقدير وامتنان وعرفان ومشاركة؛ لكل مصاب وضحية سقطت في مواجهة تسونامي الطبيعة أو تسونامي البشر.