لن يغيب بيان رقم 3 الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن الذهن يومًا ليس لما حمله من كلمات ولكن لأن البيان الذى أذيع على الهواء مباشرة حمل تحية عسكرية لشهداء الثورة تحولت لرمز واضح وصورة مشتركة بين حسابات المصريين على "فيس بوك" تأكيدًا لمكانة ودور قواتنا المسلحة، ولكن بعد أشهر قليلة من تلك اللقطة التاريخية نجد أنفسنا أمام بيان 91 العسكرى الذى يقدم شبه اعتذار على ما وقع من"تجاوزات" ضد نساء مصريات خلال أحداث مجلس الوزراء فى حين تحتل صورة الفتاة التى تعرضت للسحل والتعرية بأشكال مختلفة المشهد فما الذى أوصلنا لهذا الحال؟ وهل يمكن الاعتذار بالكلمات عما حدث؟ ومن يملك أن يداوى جراح النفس وهى تتابع كل هذا الانتقاد لجيشنا المصرى العظيم وصورته التى احتضناها طويلاً. بالطبع يختلف سياق بيان 3 عن بيان 91 فى تفاصيل وجوهر الصورة القائمة، ويختلف فى ردود الفعل عليه سواء بصورة عامة أو كما يظهر على الصفحة الخاصة بالمجلس الأعلى على "فيس بوك"، فبعد أن نزل الجيش إلى الشارع وسط الزهور وكلمات الحب والتقدير من المصريين، أصبح وجوده فى الشارع محل تساؤل، وكلامه محل تشكيك ونيته ليست محل جدل لأن ظاهره تجاوز تصوراتنا السابقة عنه بدرجات تختلف فى تقييمها بين الأفراد والقوى المختلفة. جاء بيان رقم 3 وسط أجواء الثورة فى عنفوانها وصور الشهداء تغطى على المشهد ولكن الفاعل كان نظامًا مراد إسقاطه وباستخدام يده الأمنية ممثلة فى وزارة الداخلية بما لها من سمعة سيئة لدى المصريين، وجاء بيان رقم 91 وصور الشهداء لازالت تغطى المشهد والثورة لازالت تحاول البقاء واستعادة الزخم وقوة الدفع الخاصة بها ولكن القائم على الأمور المجلس العسكرى والمسئول عن تأمين المشهد الذى شهدناه هم أفراد من الجيش. وما بين البيان الأول والثانى فرق شاسع يرفع الأول للسماء حيث الأحلام والتصورات النبيلة والصور المحتضنة فى القلوب، وينزل بالثانى للقاع حيث الكرامة المهانة والقلوب الجريحة. عندما بدأت الثورة وانتظرت مع غيرى تدخل الجيش المصرى لحماية مصر والمصريين كنا نطالب، مستندين على تصوراتنا لجيشنا العظيم وعقيدته العسكرية وحقيقة أن كل بيت فى مصر له علاقة بالقوات المسلحة بصورة أو بأخرى، وعندما تسأل البعض كيف يثق الشعب المصرى فى الجيش وكيف يرحب المواطنون بقوات مسلحة فى عملية ثورة باعتبار أن الجيش يتناقض مع الفكر الديمقراطى وأنه سيسعى لحماية مصالحه وليس مصالح الدولة، كنت أتمسك - كما فعل غيرى - بفكرة أن الجيش هو جيش مصر، وأن تصور المصريين - فى عمومهم - عن الجيش إيجابي وأننا نثق فى مؤسسة الجيش ضمن مؤسسات قليلة لازالت رغم كل عقود الظلم تتمتع برؤية إيجابية عنها لدى المصريين. ولكن بعد الأحداث الأخيرة وعلى خلفية بيان رقم 91 نجد أنفسنا أمام مشهد مغاير حيث يتحدث الجميع عن صورة فتاة أحداث مجلس الوزراء التى طيرتها الأنباء لتتحول لرمز وصدمة علنية، وأصبح الحديث عن اختلاف الجيش عن غيره حديث ماضى. ورغم أن بيان رقم 91 صدر وسط أجواء ساخنة ومشحونة بالصدمة والغضب، الا أنه جاء كما جاء تعليق عضو المجلس العسكرى فى مؤتمره الصحفى بعيدا عن الإحساس بقيمة الحدث ليس لفعل السحل والتعرى فقط ولكن لحقيقة المتهم بالفعل ممثلًا فى أفراد من الجيش، ولحقيقة الصدمة التى أصابتنا ولقيمة الفعل والمتهم. كان يفترض أن يأتى الحديث مختلفًا عن صيغة الأسف والمطالبة بالتضامن من أجل الانتخابات القادمة، وكنا فى حاجة لبعض العمق الإنسانى الذى يمكن أن يعبر عن روح الجيش الذى نعرفه وعن روح بيان رقم 3 واستقبالات الزهور فى الشوارع والميادين ولكن جاء بيان 91 على طريقة النظام المراد إسقاطه حيث يؤكد على ما لا يقبل الشك ويأسف على ما يفترض الخجل. بعيدا عن تفاصيل حادث التعرى والسحل الذى يحاول البعض التخفيف من وقعه بالإشارة إلى محاولة عسكرى آخر تغطية الفتاة، أو التأكيد على غياب العمدية والقصد، وتأسيس فكرة الحالة الفردية وعلى الرغم من كل تلك المحاولات فأن فعل السحل نفسه والعنف المستخدم من قبل قوات تنتمى للجيش هى الصور الصادمة، فما لم يحدث العنف وما لم يحدث السحل لما حدث التعرى وباقى الكلمات تبقى تفاصيل هامشية لأن قيمة الحدث تتجاوزها. لا أقول إن هناك عمدية أو قرار بانتهاك حرمة أنثى ولكن حرمة الأنثى انتهكت عندما انتهكت حرمة مصر وحقها فى رفض العنف. ظهر المجلس العسكرى فى تعامله ورد فعله بعيدا عن الإحساس بالمكانة التى تأثرت والجرح الذى حدث، وجاء تأكيده على حق النساء المصريات فى التظاهر مذكرًا بحديث النظام المراد إسقاطه عن الديمقراطية والحق فى التظاهر وحرية الرأى والتعبير وغيرها من الحقوق التى صاحبها دوما حق النظام فى القمع والظلم، وجاءت أشارته لما أسماه "تجاوزات" جارحة لقيمة القوات المسلحة فى رؤيتنا المصرية، وجاء حديثه عن الانتخابات بمثابة محاولة لتبسيط الصورة وطى الصفحة والعودة للحياة العادية على رغم الجرح النازف الذى تجاوزه البيان. وليست القضية بالنسبة لى أن المجلس استخدم تعبير الآسف بدلا من كلمة الاعتذار كما أشار البعض لأن الكلمة وحدها لن تغير روح بيان 91، فالمشكلة الرئيسية هى أن البيان جاء ميتًا وخاليًا من أى روح يمكن لها أن تعبر عما حدث، لم يدرك مَنْ وضع البيان حجم ومكانة القوات المسلحة على ما يبدو فتحدث عما حدث بوصفه حدثا عاديا، ووجد البعض أن ما حدث ليس قضية كبرى مشيرين لصور فض اعتصامات وتعامل مع متظاهرين فى مناطق أخرى حول العالم حيث يتم استخدام درجات من "العنف" ضد المتظاهرين نساء ورجال ولكن هؤلاء كبيان المجلس انطلقوا من نقطة مغايرة تماما ولم يصلهم جوهر القضية بعد وحجم الألم المصاحب لما حدث ففاتهم أن ما حدث صدمة كبرى فى مجتمع بتركيبته الشرقية- المصرية، وفاتهم أن الفاعل هو من ارتضينا أن نضعه فى مكانة خاصة من القلب والعقل بما يعنى أن اعتذاره كان يفترض به أن يكون على مستوى الصدمة والمكانة من خلال الشعور بحجم ما حدث والتأكيد على أنه خطا لم يفترض به أن يحدث. ظللت لفترة طويلة أؤكد كالبعض أن الجيش شئ مختلف عن المجلس ولا يجب تحميله بأخطاء المجلس السياسية، وعندما بدأ واضحا ما يمكن أن يترتب على وجود القوات المسلحة فى الشارع وإقحامهم فى المشهد السياسى من مخاطر على صورة الجيش طالبت بضرورة التعامل مع تلك النقطة كخط أحمر فالجيش بما نحمله له من مكانة ملكا لمصر والمصريين ولأجيال سابقة وأجيال لاحقة ولا يحق لأحد أن يشوه تلك الصورة الجميلة داخلنا. الآن وقد وصلنا لتلك النقطة، ووصلنا لبيان 91 تبدو الصورة مختلفة وتطرح تساؤلات من قبيل أى جيش أحببنا؟ فهل الجيش العظيم الذى احتضنا صورته داخلنا وكبرنا على حبه هو نفس الجيش الذى يقوم أفراد منه بتلك الأعمال التى شهدناها خلال الأيام القليلة الماضية ناهيك عن اتهامات أخرى لم تحسم بعد؟ هل هو نفس الجيش الذى حارب فدعمه الشعب المصرى فى الهزيمة والنصر ووجد دوما مبررات أخرى لكى يظل محبا مقدرا له؟ وأن كان هو نفس الجيش فكيف يمكن أن نفهم تلك التصريحات عن الحالة النفسية للقوات، وعدم قدرتهم على البقاء تحت هذا الضغط والتواجد فى الشارع؟ وأن الأخطاء تحدث وواردة عندما يتواجد الأفراد لفترة طويلة فى أجواء غير مساعدة وتختلف عن ساحة عملهم المعتاد؟!!! عن أى جيش يتم الحديث، ولماذا يذكرنى هذا الخطاب بحديث مبارك وداخليته لعقود عن الحالات الفردية التى يقوم فيها ضباط الشرطة بانتهاك كرامة وإنسانية وحياة مصريين؟ أتفهم أن التواجد على الأرض فى المدن يختلف عن التواجد فى ساحة معركة، والتعامل مع مدنيين يختلف عن التعامل مع أعداء فى ساحة قتال ولكن من طالب الجنود بتحويل التعامل مع مدنيين لساحة قتال ومواجهة، أو كيف سمح الجنود لأنفسهم بعمل هذا ولماذا أن كانت حالات فردية لا يتم محاسبة المخطئ وفقا لما نعرفه عن القوات المسلحة من حزم وربط وصرامة؟ ومن الذى أوصل الأمور إلى حد المواجهة، من الذى سمح باستخدام الجندى فى معركة ليست معركته فتعامل بآليات القتال على أرض الوطن متناسيا أن من أمامه أهله وليسوا أعداء؟ ومن الذى يقول بأن الجنود على جبهات القتال الحقيقية يكونون فى وضع أفضل مما فيه رجال القوات المسلحة فى انتشارهم من أجل تأمين المنشآت الحيوية فالحروب ليست نزهة وما تمتع به الجيش من مكانة كان كفيلا بتحقيق الكثير لمصر وللثورة والتغيير أن أحسن استخدامه كما رأينا فى أجواء الثورة وما بعدها لفترة قصيرة حيث كان ظهور القوات المسلحة فى مكان كفيلا بعودة الأمن والاستقرار. شعرت شخصيا بحزن صاحَبَه غضب وضيق لفترة ولكن القضية المهمة التى أجد من الضرورى التأكيد عليها الآن هى أن مكانة القوات المسلحة المصرية فى داخلى ستبقى أعلى مما يفعلون وأن الصور التى تكونت عبر عقود ممتدة لم تكن نتاجًا للأفعال الحالية وهى أمانة لدينا من قوات عملت من أجل مصر وأسست صورًا لا تُمحَى، وأننا سنبقى على تلك الصور ليس من أجل من هم فى مناصبهم الآن ولكن من أجل القوات المسلحة المصرية ومصر ومن أجل اليوم القادم الذى سنستعيد فيه مصر مرة أخرى وسنعيد معها ترميم الصور التى تستحق البقاء ورسم صور جديدة محل تلك التى تستحق الفناء. سيبقى الجيش المصرى فى مطلقة وصورته التى احتضنها جزء من مصر التى انتظرها ولن تكون تلك الصور مبررًا للسحل والتعرى والعنف يوما ما، ورسالتى لهم أن فعل السحل والعنف لن يكون قادرا على سحل صور جميلة أحتضنها من وطن لازال ثائرا، وأن الذاكرة ستحمى ما تشاء من مصر فى مخازن لا تتعرض للحرق ولا تحتاج لتأمين كونها أغلى مخازن الوطن وهى القلوب والعقول التى تحب تلك الأرض والتى سنسترد منها ما نشاء وقتما تشاء مصر.