قديمًا قال الشاعر الكبير نزار قباني "الحب على الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه"، و لكننا على نفس الطريقة نشاهد بشرًا مهمتهم تخيل السلطان و اختراعه و تجسيده ككيان كامل الأركان؛ لأن الحياة بالنسبة لهم لا تستقيم بدون السلطان؛ فهو حالة الحب التي لا يمكن العيش بدونها، تخيلًا أو اختراعًا، و لأن مصر شهدت في تاريخها فرعون؛ فإن الحالة توصف باختراع الفرعون كحالة و مكانة، بغض النظر عن الألقاب و النظم السياسية التي تحكمها. وفي نفس السياق نشاهد يوميًا من يقدم فروض الولاء للسلطان المخترع، و تتوجه أعينهم له، معبرين بألسنتهم و سلوكياتهم عما يتجاوز طلبات السلطان نفسه، إن كان قد طلب منهم اختراعه. لا يفوت هؤلاء أي فرصة لتأسيس السلطان كحالة و مكانة، في حين يقف البعض حولهم مذهولين؛ أين السلطان الذي يتحدثون عنه؟ و لماذا لا نراه؟ و على الرغم من أن الحب له علامات نراها على المحبوب، و خاصة كلمات الحب و التقدير، و ما يصاحبه من رقي مفترض في السلوك، فإن حب السلطان و اختراعه - خاصة إن لم يكن السلطان العادل الذي يتواجد في كتب التاريخ - لا يرتبط بسمات المحب الإنسانية؛ بقدر ما يرتبط بسمات الحب للكراسي و المناصب، و ما يرتبط بها من مصالح؛ فتأتي كلماتهم غير مقبولة، لا للقلب، و لا للعقل، فهي بالمجمل كلمات و سلوكيات غير قابلة للاستهلاك الإنساني.
صورة تأخذني من شعر نزار لقصة قديمة أخرى؛ عن السلطان الذي خرج عاريًا على شعبه؛ بعد أن أقنعه محتالون بقدرتهم على اختراع قماش و صناعة ملابس لا يراها إلا كل صادقٍ مستحقٍ لكرسيه، و لأن الجميع لديهم كراسي تستحق الحفاظ عليها - بما في ذلك السلطان نفسه - فقد تبارى الجميع - و على رأسهم السلطان - في الإشادة بجمال و روعة الملابس "الخفية" أو "المخترعة"، تعبيرًا عن حب الكرسي... حصل اللصوص على الذهب، و المجوهرات الثمينة، و ما طلبوه من نفائس؛ لصناعة الرداء الكاشف، و حصل السلطان و أتباعه و كل خائف على كرسيه على الوهم، و لم يقل الحقيقة إلا طفل رأت عينه بالقلب ما لم تره أعينهم بالعقل، الذي سكنه الكرسي. المهم أن السلطان المختَرَع صدق أنه سلطان جدير بكرسي السلطنة، ما دام رأى الوهم الذي اخترعه له من حوله حقيقيًا متجسدًا في كلماتهم و سلوكياتهم.
و لأن المقاعد في مصر حالة خاصة، سواء من حيث صناعتها، أو شروط الجلوس عليها، أو مغادرتها - إن كتب لمن جلس عليها الرحيل-؛ فإن مرحلة ما بعد الثورة شهدت و تشهد استمرارًا و تغييرًا عما كان قبلها. تغيرت الأسماء -ربما- بدخول أسماء جديدة لساحة اختيار الكراسي، و تغيرت الوجوه المستخدمة من قبل أسماء قديمة كانت تتولى الكراسي، و وضعت بعض المصطلحات الجديدة، أو طرق إلقاء جديدة لمصطلحات قديمة ضمن القاموس السياسي لخطاب ما بعد الثورة. و لكن المهم أن حالة الحب للسلطان و الكراسي استمرت ما بين الخيال و الاختراع، بما فيها من رؤية ملابس إصلاحية و ديمقراطية؛ لا تراها الأعين التي لم تعمها الكراسى بعد، بما يفسر جزء من حالة الجدل القائمة في المشهد الحالي، بين من يرى الكرسي و السلطان، و من ينكر وجوده، و من يخشى الرؤية، فيحتفظ بمساحة من الإغلاق الإجباري للعين و العقل و القلب؛ حتى يستطيع الاستمرار، باعتبار أنه خارج حساب صراعات السلطة، و ليس معني بها.
و على هامش الاختراعات التي تملأ المشهد المصري و تستحق براءات خاصة بها، و عودة للعصر الحديث؛ فإن الحياة في مصر بعد الثورة شهدت تطورًا نوعيًا و كميًا مهم. فمن جانب تطور الحديث عن "الفوتوشوب"، و بعد أن جاء استخدامه البارز قبل الثورة بشكل عرضي لتغيير مكانة رمزية للرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في صورة لم تعبر إلا عن مكانة مفتقدة، تحول الفوتوشوب للمسئول الأول عن أحداث ما بعد الثورة، و أصبحت الكثير من جرائم ما بعد الثورة "وهمية"، و غير قابلة للرؤية، و مصنفة ضمن خانة الفوتوشوب. و بعد أن كانت عقود ما قبل الثورة تعتمد في تفسيرها للكوارث على فكرة أساسية؛ و هي الماس الكهربائي الذي تم التعامل معه لعقود على أنه المذنب الأول و المتهم الأساسي الذي كان يتم تقديمه في الكثير من الأحداث؛ أصبحنا أمام كائنات فضائية، و شخصيات ملثمة و هلامية، تدخل لساحة المعارك و تخرج منها دون أن يراها أحد، أو تصورها الكاميرات، و لكنها تسجل لنا بصمتها بالدم، و بالضرب في العين، ربما لأنها تختار من هو قادر على رؤيتها، أو ترغب في التصرف بشكل استباقي، و حصد العيون التي يمكن أن تراها، و أن تكتشف بعيون البراءة أن رداء السلطان ليس إلا بدعة، و أن السلطان نفسه ليس إلا وهم.
قد تطفئ عين اليوم... قد تذهب بالبصر ... و لكن ستبقى الحياة، و ستبقى الرؤية منبعها القلب، منبعها مصر.