استحق الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، إشادة العديد من السياسيين العرب لمصارحته نجاد أثناء زيارته لمصر، برفضه ورفض الأغلبية الساحقة من الشعوب العربية محاولات إيران المتعمدة اختراق المجتمعات العربية، وإحداث الفوضى والفتنة، وهو "الفن السياسي" الوحيد الذي يتقنه الإيرانيون مع العرب. والتاريخ الإيراني حافل بمظاهر لهذا "الفن"، يتجلى أحدثها، الأسبوع الماضي، في شحنة سلاح إلى اليمن. كما يستحق الشيخ الجليل الإشادة كذلك، لمفاجأته "المهرولين" العرب تجاه إيران، بدعوته إياهم إلى التمهل، لكي لا يُضعفوا الموقف العربي أكثر مما فعلوا. ووضع الطيب يديه على سلوكيات واضحة، أعلنها أمام نجاد الذي حاول بيع معسول القول آملاً في سذاجة المشترين وغفلتهم، فوجد من ينبهه بحزم إلى صنيعه المكشوف. غرّد سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية قائلاً: «تحية من الخليج لشيخ الأزهر الحر»؛ ليعكس في كلمات موجزة رأياً خليجياً رسمياً وشعبياً أكدته المواقف اللاحقة. فقد أشاد الأمين العام لمجلس التعاون بموقف شيخ الأزهر؛ موضحاً أن نجاد كان يسعى إلى وضع يديه فيما تصوره "ثغرة" في العلاقات الخليجية- المصرية، آملاً أن يحولها إلى صدع عميق وفجوة يتعذّر عبورها. كما كان رد الفعل المرحِّب في البحرين أكثر وضوحاً، بحكم ما تعانيه المملكة التي عاشت عقوداً من الازدهار قبل أن تصلها "هدايا" الجار الإيراني لتشق الصف الوطني وتثير الفرقة والاضطراب. وازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي، بتعليقات المواطنين الخليجيين المؤيدة لموقف شيخ الأزهر، وامتد الأمر إلى مواطني الدول العربية الأخرى الذين وجدوا في هذه المواقع منفذاً للتعبير عن قناعاتهم وآرائهم. ما فعله شيخ الأزهر هو أنه عرض على نجاد شروطاً تُعدُّ من أبجديات التعامل السليم بين الدول، وأكد لساسة إيران أنه قبل أن يفكروا في التقارب مع مصر، برمزيتها ومكانتها، فإن عليهم ألا يتدخلوا في الشؤون الداخلية للدول العربية الأخرى، وأن ذلك عامل لا غنى عنه لعودة العلاقات. وأكد شيخ الأزهر على ضرورة احترام سيادة الدول العربية، وخاصة مملكة البحرين، وأن تنهي إيران احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى. إن محاولات إيران اختراق المجتمعات العربية بأساليب مختلفة، منها "سياسة التمدد الشيعي" سواء بالمعنى الديني أو السياسي، هي محاولات قديمة ومعروفة، على طريقة "مسمار حجا" الذي يختلق ذريعة ماكرة لدخول المنزل في أي وقت. وكانت هذه الحقيقة واضحة أمام شيخ الأزهر الذي نبه نجاد إلى أن لعبته لا تنطلي على أحد. لم يكن نجاد وحده هو من فوجئ بموقف شيخ الأزهر، بل فوجئ معه أولئك الذين حاولوا مساعدة نجاد على اختطاف مصر وتمكينه فيها، وتهيئة بديل للحليف السوري الذي يوشك على السقوط. تكررت لقطات فشل تطويع مصر في زيارة نجاد لمسجد "الحسين"، ثم في مقر إقامة القائم بالأعمال الإيراني؛ حيث تبادل الحضور من المصريين، تعبيرات تشير إلى الشكوك في نيات نجاد. ولعل بانوراما "الفشل" هذه قد أطلعتْ نجاد على موقف المصريين والعرب من سياساته وسياسات بلاده، خاصة داخل الدولة التي تعتبر مؤشراً مهماً للتطورات والتحولات الاستراتيجية العربية. فكما كشفت مصر حقيقة "الإخوان المسلمين" وفضحت ممارساتهم بعد أن وصلوا إلى السلطة فيها ليكون ذلك مؤشراً إلى حالهم في كل البلدان العربية، فإنها سدت الباب أمام "سذاجة" تصورات نجاد عن العرب. وأعتقد أن مراكز البحث وصنع القرار في إيران ستقرأ جيداً وقائع الزيارة وأحداثها، وستصل إليها رسالة واضحة بأن هناك غصة في حلق كل عربي مما تمارسه إيران من سياسات مغرضة تجاه بلاده. مشكلة سياسيي إيران الأزلية، سواء في تعاملهم مع الداخل الإيراني أو مع الدول العربية، أنهم يحاولون "استغفال" الرأي العام، ويظنون أن الرأي العام العربي لا يدرك أساليبهم في شق المجتمعات العربية وإضعافها. وعلى الرغم من أن ردود الفعل الشعبية في الدول العربية كافية لتبديد هذا الوهم، فإن إيران تواصل ادعاءاتها حتى يصدقها الآخرون. تحاول إيران تحقيق اختراق سياسي في مصر، مستغِلة الاختلافات السياسية بين مصر وبعض دول الخليج، خاصة الإمارات، ومحاوِلة لعب دور "المنقذ الاقتصادي"، خاصة بعدما تزايدت مؤشرات اقتراب "سقوط دمشق"، المعقل الأخير لنظام بشار، وبعدها لن تجد حليفاً يوفر لها مساحة التلاعب بالمواقف العربية. كذلك تعيش إيران اليوم مأزقاً اقتصادياً كبيراً وعزلة دولية نتيجة للعقوبات المطبقة عليها، وبالتالي فهي تحاول إيجاد أي منفذ إقليمي. تتجاهل إيران تصريحات المسؤولين المصريين بأن علاقات القاهرة بطهران لا يمكن أن تكون على حساب دول الخليج والدول العربية. وما فعله شيخ الأزهر أنه أظهر لنجاد أن هناك توافقاً عربياً ضمنياً على أن سياسات بلاده غير مرحَّب بها، وأن "اختلافات وجهات النظر العربية" لا تعني قبول التقارب الإيراني. انطلق شيخ الأزهر من موقع المسؤولية التي يفرضها عليه دوره كعالم مسلم مهموم بقضايا أمته، وقائد للمؤسسة الدينية العريقة التي أدت دوراً مشهوداً في الحفاظ على تماسك الدول العربية والإسلامية وسلامتها. ومن الطبيعي أن يكون الشيخ الجليل قلقاً حين يرى التدخلات الإيرانية الخطرة تعصف بوحدة الدول العربية وأمنها. وإذا كان نجاد قد راهن على اندفاع بعض الأشخاص والقوى غير المدروس تجاه إيران، فإن الشيخ الطيب الذي يدرك دوره ومسؤوليته كان قادراً على إدراك خطر مثل هذا السلوك، والوقوف أمامه بحزم ووضوح. يصف المراقبون زيارة نجاد لمصر بأنها كانت فاشلة، لكني أفضل أن أقول إن شيخ الأزهر "هزم" نجاد في استفتاء شعبي واسع. كسب شيخ الأزهر الجولة، لأنه ينطلق من حقائق ووقائع، ولأنه صدم نجاد الذي وجد نفسه عاجزاً عن الرد، إذ اعتاد أن تكون تدخلاته مسكوتاً عنها، وأن تتم في الخفاء. (نقلا عن الاتحاد - الامارات)