في يوم 25 إبريل 2016 قامت قوات خاصة من أشاوس الداخلية بحصار مقر حزب الكرامة في الدقي ، وعندما حاولت تنبيه قائد القوة الشاب بأن ذلك الحصار لحزب شرعي غير قانوني ، وأحذره من مغبة إطلاق الغاز داخل الشقة التي يحتلها الحزب بما قد يؤدي إلي وفاة العشرات بالإختناق ، فوجئت بالضابط الملثم يرفع بندقيته الآلية في اتجاهي ويشد الأجزاء تمهيداً لإطلاق النار وهو يهددني ... تذكرت لحظتها بأسي أن القوات الإسرائيلية لم تتمكن أن تظفر بي أثناء معركة العبور ، وهاأنذا أواجه بندقية مشهرة في وجهي من شاب ربما لم يكن قد ولد بعد عندما كنت أقاتل في تلك المعركة عام 1973 ، وكانت التقارير تتوالي علي مقر الحزب من مطاردة واختطاف المارة في شوارع القاهرة والجيزة ، بينما يتراقص البعض أمام نقابة الصحفيين المصرية وهم يحملون أعلام السعودية ... قلت لنفسي بمرارة : " كرامة شعب مصر تحت الحصار " .. يقسم الرئيس عند تولي مهامه الرئاسية بأن يحترم الدستور والقانون وأن يرعي مصالح الوطن وسلامة أراضيه .. يعني ذلك فيما يعني أن الرئيس عند انتهاء ولايته مسئول أن يسلم نفس مساحة الوطن التي تسلمها في البداية ... ومن نافلة القول أن أكرر ما سبق أن أكدته لأكثر من وسيلة إعلام ، من أنه لا يمكن لأحد أن يشك في أن رئيس الدولة يمكن أن يفرط في ذرة رمل واحدة من أرض الوطن ، فذلك أمر يستحيل تخيله خاصة وإذا كان هذا الرئيس ذا خلفية عسكرية ، فأنا شرفت أيضاً بالخدمة في القوات المسلحة ضمن قوات الصاعقة التي حاربت بين صفوفها في أكتوبر 1973 وحصلت علي نوط الشجاعة من الطبقة الأولي ، وأعرف جيداً ما يعنيه الشرف العسكري ، وما تعنيه أرض الوطن لأي مقاتل .. علينا إذاً أن ننحي جانباً فكرة التفريط أو الخيانة التي يرددها ببغاءات الإعلام وبعض الدببة التي تصر علي قتل نظام الحكم حباً وهياماً وجهلاً .. فلا أحد يمكنه – دون بينة قاطعة – أن يتهم مصرياً آخر بهذه التهمة الرهيبة ، ناهيك عن كون ذلك المصري رئيساً للجمهورية .. من نافلة القول أيضاً أن نذكر أن رئيس الدولة لا يفترض فيه أن يكون عالماً في كل تخصص ، وخبيراً في أي موضوع ، فلا ينبغي أن نتصور أنه يفهم دقائق القانون الدولي الذي يفني فيه بعض المتخصصين أعمارهم دون أن يلموا بكل تفاصيله ، ولا ينبغي أن يتخيل أحد أن الرئيس يمكنه أن يحيط إحاطة كاملة بإتفاقية قانون البحار أو بتطور هذا القانون من مجرد قواعد عرفية إلي مراحل تقنينه المختلفة حتي عام 1982 ، وبالطبع لا يمكن لأحد أن يتصور أن الرئيس لديه القدرة أو الوقت للتخصص في التاريخ أو الجغرافيا أو الجيولوجيا ، أو أن يكون ملماً بكافة تفاصيل الوثائق والخرائط المنتشرة في أضابير وزارات الخارجية وأجهزة المخابرات والجامعات والكتب بطول وعرض والعالم ، فضلاً عن أطنان من وثائق ومداولات الأممالمتحدة وأجهزتها المختلفة .. فذلك عبء تنوء بحمله الجبال ... لذلك كله كانت المفاجأة صاعقة عندما قال الرئيس أنه طلب من معاونيه أن يبحثوا عن أي وثيقة تثبت مصرية جزيرتي تيران وصنافير ،وأنهم عادوا إليه بعد ثمانية أشهر كي يقولوا أنهم لم يجدوا وثيقة واحدة .. وقال الرئيس بعد ذلك بلهجة آمرة : " مش عاوز أسمع كلام تاني في الموضوع ده " ..!! وما أن انتهي الرئيس من كلمته حتي انهمرت الوثائق التي تثبت مصرية الجزيرتين من كل حدب وصوب ، وازدحمت صفحات التواصل الإجتماعي بكمية هائلة من تلك الوثائق ، أرسل بعضها بعض المصريين الباحثين في جامعات أجنبية ، وأرسل بعضها الآخر خبراء متخصصون .. إلخ ، وفي نفس الوقت كان وزير خارجية السعودية عادل الجبير في مقر السفارة السعودية بالقاهرة يجتمع برؤساء تحرير بعض الصحف المصرية وبعض ممثلي وسائل الإعلام ، وفوجئنا في نفس الليلة وكأن بعض الإعلاميين كانوا يعلمون بأن تلك الجزر سعودية منذ سنوات ، حيث كانوا يدافعون بحماس وهم يلوحون بما أطلقوا عليه إسم " وثائق " وقد انتفخت عروق أعناقهم انفعالاً .. وهكذا وفي ظرف ساعات قليلة كان يتشكل الحزب السعودي في مصر ، وهو ذلك الحزب الذي سيطر علي كل وسائل الإعلام ، وانفرد وحده بعملية غسيل مخ واسعة ، وهو يتهم أي مخالف بالخيانة ومحاولة هدم الدولة !! ..وبدا من الواضح أن هذا الحزب شديد التمكن من مفاصل عديدة يمكن أن تفسر بعض الغموض ... وفوجئت بأن مقالي الذي أرسلته للنشر في إحدي الصحف القومية يمنع من النشر ، وهكذا أصبح الإعلام كله مصبوغاً باللكنة السعودية .. ومن الطريف أن ذلك الحماس لم نجد له نظيراً في وسائل الإعلام السعودية نفسها !! ، التي يبدو أنها أكتفت بحماس الإعلام المصري ، أو ربما لم يتح لها الحصول علي ما أطلق عليه " الوثائق " التي بدأت تتفجر من مصارين الدولة المصرية وتخرج إلي العلن ، وكأنها عملية إستباحة مفاجأة للأرشيف السري للحكومة المصرية ، وهكذا وجدنا مذكرة داخلية من نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الدكتور عصمت عبد المجيد موجهة إلي رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقي ، منشورة في كل وسائل الإعلام رغم أنها " مذكرة سري للغاية " ، ورغم أنها أيضاً لا تمثل أي إلتزام علي مصر ، ولا تمنح حقاً لأحد ، فهي مجرد مذكرة رأي يوجد مثلها ملايين المذكرات في أضابير الدولة المصرية العتيقة .. وأصبحت المفارقة التي تجلت في الأيام التالية هي أن من يتمسك بأرضه يتهم بالخيانة وهدم الدولة ، بينما من يجتهد في " إثبات " أن أرض الوطن مملوكة للغير هو الوطني الشريف ، وتلك آية من آيات نهاية الزمان ، حيث ظهر فجأة " أساتذة " في القانون الدولي لم يسمع بهم أحد من قبل ، و" خبراء " في التاريخ والجغرافيا وفي كل شيئ تقريباً ، بل ولم يكن عجيباً أن يخرج علينا بعض خبراء الشرطة السابقين كي يدلو بدلوهم في عمق آبار القانون الدولي .. إلخ باختصار .. انتصب السيرك وانتشر اللاعبون فوق كل الحبال يدغدغون مشاعر السلطة .. وهكذا لم تصبح الجزر وحدها سعودية ، وإنما بعض الرجال .. والنساء .. لعل الوصف السابق يؤكد أن الحصار لم يكن لحزب مصري أسمه الكرامة ، وإنما كان الحصار الحقيقي للكرامة المصرية .. -------- * مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية