أستطيع أن أزعم أننى متابعة جيدة لكل ما يثار عن مصر فى الخارج ، وشغوفة بتحسين الصورة الذهنية لبلدى خاصة فى الاعلام الغربى، لأنه بدون ذلك لن نتقدم خطوة واحدة للأمام، كما أستطيع أن أزعم أيضاً أننى تابعت حادث مقتل الباحث الإيطالى "جوليو ريجينى" وما تبعه من تداعيات على مستوى العلاقات المصرية الإيطالية. ففى الخامس والعشرين من يناير الماضى اختفى الباحث الإيطالى "جوليو ريجينى" فى ظروف غامضة ثم عثر عليه مقتولاً بإحدى المناطق المتطرفة خارج القاهرة، ولم يتم الكشف عن جثته إلا بعد أيام من إختفائه بالتزامن مع زيارة وزيرة التنمية الاقتصادية الإيطالية للقاهرة فى الثالث من فبراير الماضى والتى كانت برفقة وفد كبير من رجال الأعمال وكبرى الشركات الإيطالية، مما دفعها لقطع زيارتها لمصر على الفور والعودة لبلادها، وبعد أن كان من المقرر تنشيط العلاقات الاقتصادية بين البلدين أصبحنا على شفا قطع العلاقات الدبلوماسية مع بلد تربطنا به علاقات سياسية وروابط استراتيجية قوية .. هذا التزامن الغريب بين الحادث وزيارة الوزيرة الإيطالية هو الدليل الأكيد على براءة السلطات المصرية من هذه الجريمة، وهو أيضاً ما دفعنى للتساؤل ألم تكن الداخلية المصرية قادرة على إخفاء الجثة تماماً إذا كانت هى المتورطة فى الجريمة، ولماذا تم الكشف عن الجثة فى هذا التوقيت بالذات ومن المستفيد من العبث بالأمن القومى المصرى وعلاقات مصر الدولية؟. ولا شك أن الحادث تم توظيفه سياسياً لتشويه صورة مصر فى الخارج، فقد كان تناول الاعلام الغربى السلبى للقضية سبباً فى توجيه العديد من التقارير الإيطالية أصابع الاتهام لجهات أمنية مصرية وهى الاتهامات التى رفضتها الخارجية المصرية بشدة منذ البداية ووصفتها بالهراء، وهى أيضاً الاتهامات التى أطلقتها بعض وسائل الاعلام الغربية دون فتح أى أفق لتقبل أى سيناريو آخر، والمشكلة أننا عندما قدمنا سيناريوهات أخرى قدمناها بصورة غير مقنعة وتراجعنا عنها فور رفض إيطاليا لها، إذن فمن هو القاتل الحقيقى ومن المستفيد من إفساد علاقاتنا بالدول الغربية؟. كان أول تفسير أن ريجينى راح ضحية حادث مرورى، ثم انتشرت شائعات بأن الاخوان هم من قاموا بالحادث لإفساد العلاقات بين البلدين، وفى 25 مارس رفضت روما نتائج تحقيقات السلطات المصرية التى تشير لتورط عصابة من 4 أفراد متخصصة فى خطف الأجانب فى حادث مقتل "ريجينى"، وقد تم قتلهم فى تبادل لإطلاق النار مع الشرطة، وفشل بيان الداخلية المصرية الصادر فى هذا الصدد فى اقناع المحققين والسياسيين الإيطاليين وأسرة ريجينى وخرج علينا وزير خارجية إيطاليا بتصريحات يؤكد فيها ضرورة الكشف عن الجناة الحقيقيين والقصاص منهم وفق القانون، وأن بلاده لن تقنع بالفرضيات فى تفسير الحادث، مضيفاً أنه إذا لم يطرأ أى تغيير فى المسار الذى تتخذه السلطات المصرية فإن حكومة بلاده مستعدة لإتخاذ اجراءات فورية وملائمة، وهو ما اعتبره البعض تهديد واضح بسحب السفير وقطع العلاقات، وأنا أتساءل هل قطعت العلاقات الدبلوماسية من قبل بين بلدين بسبب مقتل شخص، حتى روسيا التى قتل لها أكثر من 200 شخص فى حادث الطائرة الروسية بشرم الشيخ لم تفكر فى قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر رغم أنها أوقفت جميع الرحلات السياحية لحين التأكد من الاجراءات الأمنية التى تتخذها مصر لضمان سلامة السائحين. وإذا حاولنا المقارنة بين حادث الطائرة الروسية وحادث مقتل "ريجينى" نجد أن الاثنين يجمعهما عدة عناصر أساسية تتعلق بسوء إدارة الأزمة واستخدام الحادثين سياسياً لتشويه صورة مصر فى الخارج وإظهارها على أنها غير قادرة على تأمين حياة الأجانب، بالإضافة لإنتشار الشائعات والتصريحات غير المؤكدة دون أدلة قوية على صحتها، وهو ما أفقدنا الكثير من مصداقيتنا أمام العالم. ومما زاد الأمور تعقيداً تهديد والدة "ريجينى" خلال مؤتمر صحفى استضافه مجلس الشيوخ الإيطالى بأنها ستنشر صوراً لجثة ابنها القتيل ليشاهد العالم ماذا حدث له فى مصر، وعلى الجانب الآخر ومنذ حوالى 6 شهور أختفى المواطن المصرى "عادل معوض" الذى يعيش فى إيطاليا منذ 14 عاماَ فى ظروف غامضة وفشلت الشرطة الإيطالية فى العثور عليه، ولم تزود السلطات الإيطالية نظيرتها المصرية بأية معلومات حول اختفائه، وما بين التعامل المصرى والتعامل الإيطالى مع القضيتين مسافة كبيرة، فمصر لم تتحدث عن عادل معوض إلا بعد يومين من إدانة البرلمان الأوروبي لها بسبب مقتل الطالب الإيطالي، فلماذا انتظرنا كل هذه الشهور للمطالبة بحقنا فى معرفة مصير مواطن مصرى مختفى فى إيطاليا، ولماذا لم تأخذ قضيته نفس المنحنى الخطير الذى أخذته قضية "ريجينى" وهل يختلف الدم المصرى عن الدم الإيطالى. وأخيراً أتساءل عن المسئول عن تكوين صورة ذهنية خاطئة عن مصر لدى الإيطاليين ولماذا تركنا الأمور لتصل لهذه الدرجة من التعقيد وما الذى ينقصنا كى لا نتخبط مع كل أزمة نمر بها حتى تصل بنا فى نهاية المطاف لخسائر اقتصادية موجعة لإقتصاد يعانى بالأساس منذ أكثر من خمس سنوات، وهل سيتمكن الوفد المصرى الذى يزور إيطاليا حالياً من حل هذه المعضلة، وهل نحن فى حاجة لاستبدال الوجوه المحيطة بمؤسسة الرئاسة والمنوط بها إدارة الأزمات وحلها قبل أن تستفحل وتتحول إلى كوارث .. تلك هى الأسئلة فهل من مجيب.