عندما تبتعد عن الوطن جسدًا تكتشف حجم سيطرته عليك روحًا، وعندما تبتعد عن الكثرة تدقق في العدد القليل الذي تصادفه من أبناء الوطن وهنا تكمن المشكلة. في الوطن تقابل عدد كبير من أمثالك، فكلنا مصريون نتشارك في الكثير من الأشياء ما دمنا في إطار محدد من المستوى الاجتماعي ومساحات الاحتكاك. ولكن في الغربة وكلما كانت الغربة بعيدة جغرافيًّا والعدد المتواجد قليل نسبيًّا تصبح للأشياء معاني أخرى وتصبح عين الغربة سيدة الموقف فهي وحدها التي ترى ووحدها التي تفسر ووحدها التي تقيم ما تراه. تتحول كل المواقف التي تمر بنا لمقارنات بين ما تصورناه وما حملناه معنا وما نراه على أرض الواقع. نكتشف حجم الاختلاف بين الصور والواقع، وتكون المشكلة الكبرى لنا عندما تكون الفجوة كبيرة والاختلاف بالسلب. فتتحطم الصور الجميلة تباعا أو تتشوه في أحسن الأحوال فنضعها في مكان قصي من القلب مع بقايا أحلام وأمنيات تشوهت وتحطمت عبر رحلة الحياة. وفي رحلة الغربة تظل عملية الفرز التي تقوم بها عين الغربة هي الأصل بشكل مؤلم في بعض الأحيان ومحفز في أحيان أخرى. هو مؤلم بحكم الفجوة بين الواقع والصور الجميلة المحتضنة للوطن ومواطنيه، وهو محفز لأنه يبعث على البحث عن صور كتلك التي أحملها للوطن وللوجوه التي أعرفها وأعشقها في الوطن. وتظل النقطة الأساسية بالنسبة لي أن الوجوه التي تهمني هي الوجوه المصرية الأصيلة التي تحمل بساطة وبراءة مصر. تلك الوجوه التي لا تتكلف البسمة ولا تداري الدمعة. تلك الوجوه التي تقدر لا بما لديها في البنوك من أرصده ولا بما تملكه من ممتلكات ولكن بما تملكه من طهر ونقاء أبناء البلد، وبما تملكه من شهامة يعتمد عليها الغريب والقريب في نفس الوقت. أظل أحمل داخلي صورًا مصرية كثيرة من حواري وشوارع مصر، صورًا من حديث عابر مع سائق تاكسي في شوارع القاهرة المزدحمة، ومع سائق ميكروباص في شوارع الاسكندرية الساحرة، ومع عامل أنهكه العمل ولكنه لم يمنعه أن يتذكر حمد المولى على ما رزق والدعوة بأن يمنحه البركة، فهي ما يهم وما يحدث كل الفرق بين من يملك القليل ومن يملك الكثير. تلك الصور مع صور أخرى لبشر لم تمنعهم طبقتهم الاجتماعية ولا مناصبهم وبدلهم الثمينة من التحدث كبشر والنظر في عيون متحدثيهم دون التكلف ودون وضع العراقيل وفرض أرقام السكرتارية والمواعيد المؤجلة مرات تلو الأخرى كدليل أهمية ومكانة مرسومة في مجتمعات افتقدت الكثير من القيم مقابل الكثير من الشكل فخسرت الكثير في المنتصف. أتذكر كل هذا في الغربة ففي معظم الأحيان يندر أن تقابل مصر الحقيقية وأحيانا وللأسف تقابل مصر المصطنعة التي لا أحبها ولا أعترف بها كثيرا. فمصر المصطنعة لا تملك من مصر إلا اسم يتم إضافته أو التجاوز عنه في بطاقة التعريف ولكن الروح لا تتماشى مع المسمى. منذ سنوات كنت أتساءل لماذا قال عوكل في فيلم محمد سعد الشهير "رائحتك رائحة مصر" ولماذا لم يقل شكلك مصري أو كلامك مصري؟! وكان لسنوات الغربة والالتقاء بعد عدة سنوات بعدد من المصريين أثناء زيارة قصيرة لهم في طوكيو أثرها الكبير في تعريف المعنى.. فمصر رائحة، مصر روح يجب أن تستشعرها وتحسها بكل أحاسيسك فالعين وحدها لا تكفي لأنها ستخلط بين مصر المصنعة ومصر الحقيقية. ومؤخرا أعادني لتلك الأحاسيس المصرية وجه مصري أصيل في الغربة البعيدة وهو الشيف عبد العال حسين. والشيف عبد العال الموجود في اليابان والمتزوج من يابانية يعد تعبيرًا حقيقيًّا عن تلك الروح المصرية التي تعمل في صمت وبحب الوطن وتقدم ما تستطيع تقديمه وهي تراه أقل القليل. والقليل الذي قدمه الشيف عبد العال هو يومان من العمل الشاق لإعداد عشاء لعدد من الضيوف المصريين والأجانب يصل إلى مائة فرد أو يقل قليلا بمناسبة شملت مع مناسبة أخرى الاحتفال بأول رئيس مدني منتخب لمصر بعد الثورة. مناسبة عبرت من جانب عن ما تمثله مصر عبر المسافات من نبض مستمر لا يتوقف، وما تمثله الوجوه المصرية من عطاء للوطن بلا حساب أو انتظار لثمن. عمل عبد العال صاحب الوجه المصري السمح القريب من وجوه مصرية كثيرة تراها في شوارع مصر وابتسامته تعلو وجهه رغم التعب على مدار يومي عمل لإعداد طعام مصري متنوع. قام بكل هذا خلال أجازته الأسبوعية ورغم ارتباطه بعمله في اليوم التالي للاحتفال رافضا في النهاية تقاضي أي مبلغ من المنظمين عن الجهد الذي قام به، ومعتبرًا أن ما قام به هو أقل القليل، وهو ما يمكن له أن يقدمه كمشاركة في احتفال مصر. ذكرني عبد العال بما يردده أهالينا عن قدرة البسطاء على العطاء، حتى وإن تم إعطاء كل ما لديهم فالحسابات لديهم مختلفة والحب لديهم غير ملوث بالاشتياق للمناصب والمصالح. الحب هنا عطاء حقيقي كحب الأطفال لا ينتظر مقابل ويفرح لكلمة شكر أو مديح صادقة. كلما قابلت عبد العال وزوجته في مناسبة مصرية أعادني لرائحة مصر خاصة مع كلمات الاشتياق التي لا يتوقف عن ترديدها عندما يأتي الحديث عن الوطن الذي يحن للعودة إليه. فمصر هي الحبيب الذي نحبه مهما اتهمناه بالقسوة لأننا ندرك أن القسوة تقع عليه وعلينا وأنه مثلنا يعاني رغم الحب. وعبد العال وكل وجه مصري مشابه هو ما يزيد ثقتي في الثورة ومصر والمستقبل. عبد العال مثله مثل ملايين نزلت للشوارع والميادين وحوَّلت فعل المظاهرة إلى ثورة. عبد العال مثله مثل وجوه كثيرة لم نرها في الفضائيات ولم نسمع صوتها وهي تحاور أو تتصارع في برامج التوك شو. عبد العال مثله مثل وجوه مصرية كثيرة بعضها وقف في مواجهة مدرعة الشرطة، أو في مواجهة هجمات قوات الأمن ولكنها جميعا زهدت الأضواء لأنها من البداية كانت تعرف هدفها وتعرف أن معركتها هي معركة من أجل مصر وليست معركة كراسي ومناصب وبعض الأضواء. لم يسع عبد العال لأكثر مما قام به وهو أن يشارك بما يستطيع في رسم الفرحة المصرية في بلاد بعيدة تشرق منها الشمس لعل تلك الشمس التي تحملها ابتسامة عبد العال المصرية وحبه لبلده تكون كافية ليفتح هذا الوطن حضنه لمواطنيه ولمن يحبه بشكل حقيقي حتى نستعيد ضمن أشياء أخرى كثيرة افتقدناها رائحة مصر.