حين أحاول أن أرسم صورة الشعر العربى فى القرن العشرين، فإن عينىَّ تقفان فى كل مرة أمام هذا الشاعر المدهش الذى أسمح لنفسى بأن ألقبه "شاعر الشعراء" ، لا بمعنى أنه أميرهم أو كبيرهم أو أولهم، وإنما بمعنى أنه إذا كان هناك شعراء يُطربون القراء، فإن هذا شاعر أول من يطرب له هم الشعراء الآخرون، وكل منهم يتساءل كيف استطاع أن يحفظ لصوته صفاءه وتفرده على هذا النحو الفريد، وفى الوقت ذاته فإنى أزعم أنه ليس هناك شاعر، ممن جايلوه أو تبعوه، نجا من التأثر به. إنه الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل الذى يقول عن ذاته: لاموا عليّ الشدوَ قلتُ رُوُيدكم من ذا يلومُ العبقريَّ الملْهما غيري يسُوقُ الشعرَ فضلَ بلاغةٍ وأنا أُفجّر في منابِعه الدما!! تشعر حين تكون أمام قصائده بأنه متيم بالسير فى الطرق غير المألوفة، والدروب غير الممهدة، والسبل التى لم يسر فيها أحد من قبله، وكأنه يخشى إن هو سار فى درب سبقه إليه آخرون أن تقع قدمه على أثر قدم شاعر سواه، إنه حريص على أن تكون له طريقته بالغة التميز فى رسم الصورة الشعرية، وفى صوغ العبارة الشعرية، وفى ابتكار التنويعة الموسيقية، بل إنك تشعر أنه فى تعامله مع المفردات يود لو استطاع أن يبتكر لغة غير اللغة وينطق بألفاظ غير الألفاظ. لم تكن مصادفة أن ينزل القاهرة فى الوقت ذاته الذى يودع فيه أمير الشعراء أحمد شوقى حياة البشر، وكأن ذلك كان إيذاناً بأن عليه أن يحمل لواء الشعر خفاقاً مهيباً، وأن يلفت انتباه أساتذته فى دار العلوم بشاعريته المتفجرة، قبل أن يدهش الأوساط الأدبية كلها بديوانه المتفرد "أغانى الكوخ" الذى ستتلوه دواوين شتى بعد ذلك" هكذا أغني، الملك، أين المفر، نار وأصفاد، قاب قوسين، لا بد، التائهون، صلاة ورفض،هدير البرزخ، صوت من الله، نهر الحقيقة، موسيقى من السر، رياح المغيب. متنقلاً بين رومانسيته المحتفية بالبسطاء والمجهدين والمهمشين، ووطنيته التى تستحضر أصداء اللحن المصرى بتنويعاته الفرعونية والإسلامية والعربية، وصولاً إلى نبرته الصوفية التى تبين فى أصفى مراقيها. لم يكن لمحمود حسن إسماعيل إلا أن يكون شاعراً، لذلك فهو يستحضر روح الشاعر فى كل ما يعرض له من مهام أو يسند إليه من أدوار، حتى حين مارس عمله فى الإذاعة المصرية، فإنه كان فى الحقيقة يمارس دوره أو رسالته فى الارتقاء بالأغنية المصرية من ناحية وبذائقة المستمع المصرى من ناحية أخرى. وكان اعتداده بشاعريته مضربا للمثل، وهو الذى غنى كما أحب أن يغنى دائما: إن تسل في الشعر عني...هكذا كنت أغني لا أبالي أشجَى سمعَك أم لم يُشجِ لحني هو من روحي لروحي صلوات, و تغنِّي ....... إن تشأ فاسمع نشيدي...أو تشأ فارحل و دعني و إذا أشجاك همسٌ من صداه...لا تلمني ما أنا إلا كظلٍّ لشعوري...فاعفُ عني ---------------- مقال إيقاع مختلف من المشهد المطبوع المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية