عندما كان شعراء جيله يهيمون في آفاق شعرية بعيدة, تغمرهم نشوة رومانسية عارمة, وهيام وافتنان بالمجهول, كان هو يعود بالشعر إلي جذور عالمه الواقعي ومعاناته الوجودية في فضاء قريته. كان محمد عبد المعطي الهمشري يهيم وراء شاطئ الأعراف, وإبراهيم ناجي يحلق وراء الغمام, وعلي محمود طه يبحر مع الملاح التائه, أما هو فقد آثر بفطرته الشعرية الصافية وعمق انتمائه للأرض والانسان في وطنه أن تكون إفضاءاته أغاني الكوخ. هكذا برز محمود حسن إسماعيل, شاعرا استثنائيا, يغير لغة الشعر ومعناه منذ الطلقة الشعرية الأولي, ويعلن عن طاقة شعرية جبارة, يفيض بها وجدانه وفنه, وتظل تؤازره علي مدي رحلته الشعرية الطويلة بدءا من ديوانه الأول أغاني الكوخ الصادر في اليوم الأول من عام1935 حتي أنفاسه الأخيرة في أبريل عام1977 عندما كان رحيله عن سبعة وستين عاما. وفي مئوية ميلاده, التي احتشدت لها لجنة الدراسات الأدبية واللغوية بالمجلس الأعلي للثقافة, وكلية دار العلوم بجامعة القاهرة معا, كانت وقفة التذكر والتأمل والمراجعة, والدعوة لقراءة واحد من شعراء الوطن الكبار الذي جعل من القرية المصرية في صعيد مصر( قرية النخيلة في مركز أبو تيج بمحافظة أسيوط) ومن كائناتها, عالما شعريا فريدا ومتميزا, فالقرية هي وطن الفأس, والمؤذن هو شاعر الفجر, والثور هو عاهل الريف, والغراب هو راهب النخيل, والفراشات هي راهبات الضحي وعرافات الزهور, وملاحو النيل هم عبيد الرياح, والحر الشديد هو جلاد الظلال. وهو في شعره الذي يغير به خريطة الشعر في زمانه بين صلاة ورفض يري أنه قد أصبح قاب قوسين من السر الذي جعل إنسانه مدموغا بالرق, متسائلا في كل لحظة شعورية أين المفر: أنا والناي والحياة وسر/ في مرايا النفوس يخفيه برقع/ كلما سله شعاعي من الليل/ علي موضع يداريه موضع/ لست في حيرة ولا في وقوف/ فمع الله نظرتي تتطلع/ كلما فر طائر حاصرته/ فأتاها من حالك التيه يخشع/ هدأة وانطلاقة, وإذا النور/ علي الدرب يستهل ويسطع. ولأنه لا يشبه أحدا ممن سبقوه, حتي من رصفائه شعراء دار العلوم السابقين له أو المجايلين: محمد عبد المطلب وعلي الجارم ومحمود غنيم وعلي الجندي والعوضي الوكيل وطاهر أبو فاشا وأحمد مخيمر وغيرهم, فلم يكن بوسع أحد ممن جاء من بعده أن يستنسخه, فالشاعر المتفرد لا يمكن استنساخه, وإذا ظن أحد أن بوسعه أن يستنسخ أحدا, فإن الأصل يظل هو الحقيقة الشعرية وما عداها زيف وتزوير وخداع بصر وبصيرة. ولأنه كان يدرك بوعيه الشعري وحسه الانساني أنه شاعر مختلف منذ بداياته المبكرة, فقد جاهر بإعلان هذا الاختلاف, معلنا أنه لا يعنيه رأي مخالفيه: إن تسل في الشعر عني/ هكذا كنت أغني/ لا أبالي أشجي سمعك/ أم لم يشج لحني/ هو من روحي لروحي/ صلوات وتغني/ وهو من قلبي ينابيع/ بها يهدر فني/ مذهبي؟ لا مذهب اليوم/ سوي أصداء لحني/ إن تشأ فاسمع نشيدي/ أو تشأ فارحل ودعني. هل كان محمود حسن إسماعيل يستشعر أن رحيله سوف يكون في أبريل شهر الربيع كما سماه, وهو يقول: ضج الهوي في بدني, فهل نزعت كفني؟/ وأحرقي كل هشيم في الحياة لفني/ وكل صمت راح في رماده يدفنني/ أبريل دير العاشقين من سحيق الزمن. مئوية ميلاده تعيدني إلي صوته الشعري, إلي عالمه الشديد الخصوصية والتفرد, ولغته التي توقف كثير من دارسيه عند غموض صوره الشعرية وتعقيدها, دون أن ينفذوا إلي جوهر بكائياته التي صاحبته منذ ديوانه الأول حتي ديوانه الأخير رياح المغيب, وهو المسكون منذ الصبا بفكرة الزوال والعدم والموت والانتقال من البر الشرقي إلي البر الغربي للنيل, وموسيقي الجنائز التي تستثير شجنه الكوني, وتوقفه أمام طعنات الرحيل. هذه النزعة البكائية هي جوهر شعره, وهي منطقة الجذب الشديد فيه, والتعلق العميق بأسراره ورموزه, والتوقف أمام قدرته الخارقة علي الادهاش: فقلت: اتركيني لسر الزوال/ فإني به من زمان بليت/ هواك, وأنت, وهذا الوجود/ ربيع يجددني ما حييت/ فلا تفزعي إن أطل الخريف/ ولم يبق في اللحن إلا خفوت/ فلو مات في روضنا كل شيء/ فإن ربيع الهوي لا يموت! المزيد من مقالات فاروق شوشة