كثيراً ما يسألنى أصدقائى، ممن يتوقون إلى قراءة الشعر فى أرقى نماذجه المعاصرة، عمن يمكن أن يقرأوا لهم من الشعراء الذين يحيون بيننا الآن، والذين تحمل قصائدهم من الخصوصية والرقى ما يغرى بقراءتها، ويختص أصحابها بمكانة خاصة وسط ركب الشعراء الشعراء فى مسيرة الشعر العربى الطويلة. وقد آثرت أن أبدأ بواحد من أكثر الأصوات الشعرية تحققاً وتميزاً، استطاع صاحبه على مدى ربع القرن الماضى أن يختط لقصيدته درباً يخصها وحدها ويحمل سماته وحده، بل إن نجاحه فى الوصول بهذه القصيدة إلى مرقى بعيد قد أغرى عشرات الشعراء من مجايليه بأن يسيروا على دربه وأن يحاولوا أن يستلهموا قصيدته أو حتى أن يقلدوها. عن صديقى الشاعر المتميز أحمد بخيت أتحدث، مستعيداً ثنائيته المفارقة المدهشة التى تلوح فى كل قصائده مرتكزاً للرؤية و مِفصلاً للتعبير فى آن معا: غنيتُ باسمكِ وانكسرتُ أمام يأسي وانتصرتُ غنيت مصر فهل رأت من أي شريانٍ نزفتُ ؟ وحضنت كل بيوتِ مصرَ وليس لي في مصر بيتُ!! تلك المفارقة التى لا تستمد قوتها من المقابلة البسيطة السطحية الساذجة، ولا حتى من المقابلة البلاغية المدهشة، وإنما من رؤية بالغة العمق لحقيقة الأشياء، ووعى بالغ الفهم للتناقض الجوهرى فى الكون الكبير، والذى يلقى بظل مهم من ظلاله على تجربته الإنسانية والإبداعية معاً. هذه الرؤية تأتى عند أحمد بخيت دائماً ممتزجة بلون من ألوان الزهو الإنسانى الخاص الذى يجعل الشاعر يعتد بشاعريته اعتداداً لا حدود له: فى آخر السَّطر أمْ فى بَدئِهِ تَقفُ فى الحالتين وحيدٌ أيُّها الألف أرسلتُ جِذركَ حيثُ الأرضُ مُعتِمةٌ وامتدَّ جِذعُكَ حيثُ النَّجمُ يُقتَطفُ آمن أحمد بخيت إيماناً عميقاً بأن القصيدة العربية فى نموذجها الخليلى (الذى يسميه البعض "العمودى") تمتلك طاقات موسيقية لم تستنفد بعد، وطاقات إبداعية لم تكتشف بعد، فراح يطلق خيل شاعريته فى مضمارها الرحب، غير آبه بالمقارنات التى سوف تعقد بينه وبين أعلام هذه القصيدة فى شتى عصور الشعر العربى المتعاقبة، متسامياً فوق دعاوى واتهامات سوف تأتيه من اليمين ومن اليسار، واثقاً بأن انتماءه إلى عصره وتعبيره عن جيله بصدق وتفرد، سوف يكون درب نجاته من كل الفخاخ والأشراك المنصوبة حواليه. وآمن إيماناً راسخاً بأن موهبته الشعرية الطاغية سوف تحفظ لقصيدته ملامحها الخاصة، وسوف تحرس نبرته المميزة ، وهو يستوعب التجارب الكبرى فى مسيرة الشعر العربى، من المتنبى إلى درويش، ومن شوقى إلى نزار، بل وحتى حين يمد عينيه إلى ما وراء التجربة العربية، حيث التجارب الإبداعية المميزة من ناظم الترك وخيام الفرس إلى لوركا الإسبان. سَتذهبُ حيثُ لا أحدٌ سيذهبْ وتصبحُ دائماً عنقاءَ مغربْ سَتلمعُ فى الظلامِ لكى تُقاسِى تورُّطَ نجمةٍ وحياةَ كوكبْ سَتبكى فقدَ شىءِ ما، وتهذِى بشىءٍ ما، وتخسَر حينَ تكسِبْ سَتبدو قاسياً وتفيض عطفاَ وسوفَ تذوبُ صدقاً حين تكذبْ عشرة دواوين شعرية متعاقبة، رصعت مسيرة الشاعر على مدى العقود الثلاثة الماضية: "وطن بحجم عيوننا" ، "الأخير أولاً"، جزيرة مسك"، "قل للمليحة"، "قمر جنوبى"، "شهد العزلة"، الليالى الأربع"، "صمت الكليم"، "جبل قاف"، وداعاً أيتها الصحراء" ، وما زال نهر الإبداع متدفقاً. -------------- زاوية ايقاع مختلف بالمشهد الأسبوعي المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية