أطلقَت استجارتها فى أحضان الصحراء بصوت متهدج مرتعش بعد أن صارت تخشى أن يَهِم بها المُغتصِبون، لينتزعوا عِفتها وجمالها البكر.. تلك هى عروس الصحراء ولؤلؤتها، راح يتأهب حُفاه التاريخ و عُراه العقيدة لانتهاك شرف ماضيها ودهس معالم حضارتها التى نحتتها الأيام بطرقاتها، فإذا ما تجولت بأركانها حاصرك عبق السحر المُتدَلى من أعمدتها الشَماء وكأنك بكواليس أزهى العصور التى استودعتها بصمات ظلت حية نابضة بجنباتها . إنها مدينة "تدمر" السورية .. "المدينة التى لا تُقهَر"، هكذا تعنى باللغة الآرامية السورية القديمة، وهى واحدة من أهم وأقدم المواقع الأثرية في الشرق الأوسط والتى أدرجتها منظمة (اليونيسكو) على لائحة التراث العالمي للانسانية. ها هى تلك الجميلة قد وقعت بأسر السفهاء وتنتظر مصيراً مخيفاً كشقيقتها "الموصل" العراقية، فإذا بها تقتر جريمة لم تهدأ نيرانها بعد ولا يزال يعلق رمادها بالأفق، فيدب بأوصالها هرم لم تكن تعرفه قط إلا مع غزو هؤلاء (الدواعش) أعداء البشرية وقراصنة الدين. أخال أعمدتها الرومانية الفارهة التى وقفت ممشوقة القوام أمام مرتاديها من السائحين وهى تركع الأن متوسلة آلا يجتثها الإرهاب الأسود من أرضها الطيبة.. أخال مجسماتها وتماثيلها المصطفة بمتحفها العتيق يكاد يملؤها الفزع وتدوى صياحتها بجنباته وقتما دهسته أحذيتهم الهوجاء وانطلقوا يهشمون بلا وعى أو إدراك لِمَ يقترفون.. أخال مقابرها الملكية وقد تقلقلت أرواح ساكنيها من هول ما يدور من جرائم يٌعاقب عليها قانون التاريخ ويُصدر فيها قضاء التراث حكم الإعدام رجماً وحرقاً ورمياً بالرصاص . لا أُخفيكم سراً فقد أقشعر بدنى واستبد بى الجزع من ذلك (الكابوس الداعشى) ومن صانعيه.. هؤلاء اللذين حانت لهم لحظات نجسة استجلبوا بها أرواحاً ماردة انسلخت عنها كل صفات الإنسانية واستبقت فقط على ذلك العداء الأزلى الذى لم تنجح الأيام فى ترويضه بعد مع الكيان العربى، فراحوا يلعبون لعبة الموت على إيقاع شيطانى يتطاير من حوله الرماد، ولم يرتوا بالدماء العربية فحسب، بل تمددت اللعنة حد الإمتزاج بالأنفاس، فأرادوا طمس ومحو حضارة لم تفلح الأموال والنفوذ فى صناعة مثيلها... ولكن هل من أحد يسمع إستجارة "الجميلة" الأسيرة ؟ هل من رجولة ونخوة عربية تستشيط غضباً لتحمى تراثاً لن يغفر لنا التاريخ هَتكِه واستباحة حُرمته؟ أنتركهم يقتاتون من دماء الحضارة ويُطلقون سهام الخيانة بجسدها النضر؟ أرادونا بلا هوية أو تاريخ، فالطالما إعتدنا نحن العرب المفاخرة بهذا التاريخ والتباهى بتوارثه وانتسابنا له.. ولهذا السبب لم يكتفوا بإنهاك جيوشنا ونهب ثرواتنا وتهجير أهلنا ووأد أحلامنا، بل راحوا يغتالون كبرياء أزعجهم كثيراً، فالعرب هم أعرق من عرفهم التاريخ، يسبحون على صفحة مياه متدفقة تتفجر ينابيع ثرائها وتتدثر بسماء عريضة متراكمة التفاصيل. ولكن وا أسفاااااه ..ها هم صاروا يرتشفون خمر الشتات فى استكانة.. ينغمسون فى كؤوس مسمومة ويتجرعون أقداح الفُرقة ليتحدوا فقط ضد بعضهم البعض. وها هم الأعداء يقرأون تاريخنا ويستذكرون دروسنا، ويحتشدون لسحقنا وسحق هذا التاريخ حتى لا نعيد النظر فيما اعتدنا التغنى به دون إعماله على أرض الواقع.. وتبقى"تدمر" تُطلِق إستجارتها الأنثوية المستضعفة وتتعشم كثيراً فى رجولة عربية متوارثة تحلق فوق كل هذا الغيم، فعسى ألا تتلاشى صيحاتها فى الفضاء دون تلبيةً أستوثقت بها كثيراً .. ليتنا لا نكون شعوباً إلى زوال ..!! المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية