فى حضرة سيدنا الميدان ورحل "الأبنودي" عن عمر يناهز ... (ليس مهما عمره). المهم أنه كان ابن تجربة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي التي أنجبت: فؤاد حداد، صلاح جاهين، أمل دنقل، أحمد فؤاد نجم، سيد حجاب، يحيى الطاهر عبدالله .. وآخرون أبدعوا في مجالات الشعر والقص القصير والطويل والرواية. هل كان الأبنودي أعظمهم؟ قد يكون وقد لا يكون. ولكن، ما لا يستطيع أن ينكره عاقل أنه بلغ عنان السماء أكثر منهم جميعا، بأن كتب أشعارا تغنى بها أعظم المطربين ... أغان وطنية وعاطفية وشعبية بقيت في وجدان الناس. كتب أغان وأشعار، على الرغم من أنها لم تفصح عن معان جديدة في تاريخ الإنسانية، إلا أنها أفصحت عن مفردات جديدة على الذوق العام، مفردات آتية من طين الصعيد الجواني. وعلى ما يبدو أنه لم يكن يكتب تلك الأشعار إلا ليمرر مفردة من مفردات لغة أهله وناسه وبيئته، لغة أمه وخاله وعمه وعمته، لغة حلاق قريته وجزارها، لغة عامية كانت قبل أن تنقطع "الدميرة". "الدميرة"، هي الفيضان كما كان يطلق عليه أهل الصعيد قبل بناء السد العالي. وعلى الرغم من أن كلمة الفيضان اسم مذكر، إلا أن أهالي الصعيد كانوا يسمونه الدميرة، وهي اسم مؤنث. هل كانوا يقصدون من تأنيث كلمة الفيضان بأن يسمونه "الدميرة" أنهم يرون فيه موسما للإخصاب والخصوبة التي تلازم موسم الفيضان، حيث يأتي إلى الأرض الشراقي بعد عطش، فيغرقها، ويخصبها، ثم يرحل عنها تاركا وراءه هموم وصبر ومحن يواجهها الناس بجسارة حتى يؤتوا ثمارا من ورائها (الدميرة) بعون الله والأرض والشمس. قضى الأبنودي طفولته في هذه البيئة، واختزن الكثير من ذكرياته عنها، والتي ظهرت ف الكثير من معاني ومفردات أشعاره وأغانيه. وعلى الرغم من إبداعه في أغلب أغانيه ودواوينه الشعرية، أعتقد أن من أعظم وأهم ما كتب كان كتابه "أيامي الحلوة"، الذي يحكي فيه عن ذكريات طفولته في قريته قبل أن تنقطع الدميرة. يحكي عن ذكرياته مع عمه "محمد عبد الوهاب" رئيس الجمعية الزراعية، وعن شحات القرىة الذي يُذَكِرَهُ دومًا بأنين بيوت قريته حينما تفتح بابها لشخص غريب، وعن "مراد الحلاق" الذي قطع جزءا من لحمه بنفس الموسي الذي يستخدمه لشهور وشهور دون أن يتلوث. يحكي عن "يامنة أبو العلا" التي هي ليست عمته التي كتب عنها قصيدته الشهيرة "العمة يامنة"، ولكنها عجوز أخرى، اعتاد اهالي قريته سماع صراخها من وقت لآخر لتعلن عن غريق أو حريق، لتكون أول من يفتح أبواب السماء أمام أرواح الموتى حتى قبل أن يعلن الرب عن موتهم. يحكي عن "البلابيصا" و"الشلولو" و"المجارجة" و "الخمر الفرعوني"، وعن "ناصوب الدوم" الذي كان بمثابة الثروة الوحيدة التي قد يمتلكها طفلا من أطفال قريته. على ما يبدو أن الأبنودي لم يكن مجرد شاعر، لكنه كان باحثا اجتماعيا، احتار في كيفية إخبار ناس مصر عن هموم أهله وقريته في الصعيد، فاختار الشعر والغنا منوالا ينسج عليه دراساته عن طبيعة الحياة في الريف المصري في الصعيد قبل بناء السد العالي. مرر الكثير من المفردات في سياق كلمات أشعاره وأغانيه، ولما استشعر أن قالب الشعر لم يستوعب كل ما يريد ان يخبرنا به، كتب (قبل أن يرحل) ذكريات طفولته في كتاب "أيامي الحلوة"، والذي استقبله الكثيرون على أنه مجرد حواديت شاعر، ولكنه -من وجهة نظري- واحد من أهم الدراسات الأنثروبولوجية عن أرياف مصر قبل بناء السد العالي وانقطاع "الدميرة". ألف رحمة ونور عليك يا ابن الدميرة. خد بالك من نفسك في الآخرة يا خال. من العدد المطبوع من العدد المطبوع