وغابت شمس الأبنودي... لتسطع في عنان السماء. دوام الحال من المحال.. من التراب وإلى التراب نعود. هذا هو حال أهل الأرض.. يولدون ثم يموتون ثم تصعد الروح إلى بارءها! ورحل الشاعر الكبير القدير المخلص لوطنه، الذي لا تكفيه أو توفيه الكلمات الصادقة المعبرة عن صدق شخصه وحاله مع مصر والمصريين... هذا الشاعر الكبير المحب لوطنه للنخاع، الذي علمنا بكلماته يعني إيه كلمة وطن.. فمصر كانت تسير في دمه وعروقه ووريده. ورحل الخال بعد معاناة مع المرض حيث أجرى عملية سريعة لإزالة تجمع دموي بالمخ، وتم نقله إلى المركز الطبي العالمي بطريق القاهرةالإسماعيلية الصحراوي، وتم حجزه بالعناية المركزة ومنع الزيارات عنه بعد أن تدهورت حالته. رحل الأبنودي بعد أن قد عانى من تدهور حالة الرئة، مما جعله يعاني من ضيق في التنفس ،حيث أكد الأطباء أن رئتيه لا تعملان بشكل جيد، ولم يتبق منهما سوى جزء بسيط. لم أعتد أن أطل على القارئ العزيز السطور، حتى لا أكون من الكتاب المملين، لكن عبد الرحمن الأبنودي، هذا الشاعر الكبير يستحق أن نكتب عنه بعض السطور والذكريات التي عاشها.. وربما يكون هناك جوانب من حياته لا يعلم عنها أحد! ولد الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي عام 1939، في قرية أبنود بمحافظة قنا في صعيد مصر، لوالده الشيخ محمود الأبنودي، والذي كان يعمل مأذونا شرعيا، وانتقل إلى مدينة قنا وتحديداً في شارع بني علي، حيث استمع إلى أغاني السيرة الهلالية التي تأثر بها. المرأة، ظلت محصورة في دور الأم والجدة والعمَّة فترة طويلة من حياته، رافضًا دخول الزوجة إليها، رغم الإصرار الشديد الذي يواجهه مع كل زيارة إلى مسقط رأسه لرؤية والدته "فاطمة قنديل". وعن علاقته بوالدته، ربطته علاقة قوية، حملت همه منذ اليوم الأول له في الحياة، بعد أن كان مهددًا بالموت إلا أنها رفعت يدها بالدعاء إلى ربها، مارست الطقوس المجتمعية في محاولة للعبور بوليدها إلى بر الأمان، وسط كلمات الأب التي تحاول التخفيف عن زوجته: "أتركيه يموت في هدوء، لا تتعلقي به، شدي حيلك وهاتي غيره"، إلا أن تصميم الأم على حياة ابنها أوصله إلى أعلى الدرجات، ليحفر اسمه في التاريخ بحروف من ذهب. اعتاد الخال ذكر اسم والدته في الكثير من أشعاره، لكنه حرص على نطقه باللغة العامية المصرية "فاطنة". أما عن المرأة الثانية في حياة الأبنودي، فكانت عمته "يامنة"، التي روى حياته معها في قصيدة تحمل اسمها، (يامنة) .. رثى عبد الرحمن الأبنودي روحه الكهلة مبكّرًا، على لسان عمّته الطيبة التي تعجبت مما وصلت إليه ملامحه بالقول: "والله وشبت يا عبد الرحمن"، ولكنها ما تلبث أن تقول في القصيدة نفسها "إن جاك الموت يا وليدى موت على طول".. ولعلّه استجاب إلى النصيحة اليوم، فغادر عالمنا كاملاً ومكتملاً .. ناضجًا ومستويًا كالفاكهة على أغصانها، حاملاً على كتفيه عشرات الأغاني والقصائد والدواوين والأمسيات والجوائز والمواقف المشتبكة مع واقع البلاد وقضاياها بشكل حي وفاعل! تزوج الأبنودي مرتين، مرة من السينمائية ومخرجة الأفلام التسجيلية عطيات الأبنودي، ثمّ انفصلا وبعدها بسنوات تزوج من المذيعة التليفزيونية نهال كمال، ورزق منها بابنتين، هما: آية ونور. وعن قصة زواجه بالإعلامية نهال كمال، تعرف إليها منذ السنوات الأولى من قدومه إلى القاهرة، وكان يراها صديقة جيدة، لكنه لم يراها في يوم من الأيام زوجة له، وساعد على ذلك أنه كان يناديها ب(ابنتي). وفي المقابل، كانت نهال في بداية علاقتها ب(الخال) حريصة على أن تترك له رسائل موقعة باسم "ابنتك نهال". وفي يوم، رتبت فاطمة قنديل، أم الشاعر، زيارة إلى ابنها المقيم في القاهرة، ولما أخبر (الخال) صديقته بقدوم أمه من قلب الصعيد، أصرت أن تقضي معها بعض الوقت. وجمعت الأقدار نهال وفاطمة على انفراد في يوم كامل، حيث صادف يوم مجيء الأم إلى القاهرة، خروج الابن إلى العمل، ودار بينهما حديث طويل، مكّن نهال من أن تحجز ركنًا خاصًا في قلب الأم الصعيدية. ولما عاد الابن وجد أمه منشرحة القلب، وقالت له: "مش أنهال كانت هنا"، وتنبأت بزواجهما: "والله يا ولدي ستكون زوجتك"، فرد عليها مندهشًا: "كيف تقولين هذا وهي تكتب لي قائلة (ابنتك نهال كمال)؟"، لترد: "والله يا ولدي الزواج ما له علاقة بمثل هذه الأمور.. الجواز ده قسمة ربنا ونصيبه". ومرت الأيام، وأكدت بعد نظر الأم، فتزوج ابنها من نهال. حب نهال كمال لأشعار الأبنودي، كان السبب الرئيسي وراء زواجه منها، بالإضافة إلى رأي أمه فيها. فكان يقول دائما: "لم تكن تكتب الشعر، ولكن هي التي أقرأ عليها أولًا كل إنتاجي الجديد.. إنها الناقدة التي أعرف رأيها أولاً". ونهال كانت تعارضه أحيانًا في بعض المواقف وفيما يكتب. علاقته بنهال، اتسمت طيلة سنين زواجهما بالألفة والمودة.. احتفل (الخال) ونهال بعيد زواجهما الأخير له، من داخل غرفته بمستشفى الجلاء العسكري في الإسماعيلية، يوم 6 مارس 2015. وكتب القدر على الأبنودي أن تؤثر المرأة على حياته، فرزقه بابنتين هما "آية" و"نور"، فكان بمثابة الصديق والأخ قبل أن يكون الأب، وتأثرا به وشكل وجدانهما، حتى ورثت ابنته "نور" الشعر من أبيها لتكتبه باللغة الإنجليزية. الأبنودي، شاعر مصري.. يعدّ من أشهر شعراء العامية في العالم العربي. شهدت معه القصيدة العامية وعلى يديه، مرحلة انتقالية مهمة في تاريخها.. من أشهر أعماله، السيرة الهلالية التي جمعها من شعراء الصعيد ولم يؤلفها، ومن أشهر كتبه، كتاب أيامي الحلوة الذي نشره في حلقات منفصلة في ملحق أيامنا الحلوة بجريدة الأهرام، تم جمعها في هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة، وفيه يحكي الأبنودي قصصاً وأحداثاً مختلفة من حياته في صعيد مصر. حصل الأبنودي على لقب تميمة الثورات المصرية، فهو مغني الشعب بعد نكسة 67 بأغنية "وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها"، وصاحب صرخة "مسيح"، إضافة إلى العديد من الأعمال الإبداعية منذ منتصف الخمسينيات، وحتى الآن مروراً "بالسيرة الهلالية" و"الأحزان العادية" و"المشروع الممنوع" و"صمت الجرس"، و"عمليات" وأعمال كثيرة أثرى بها الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي. وللشاعر الكبير العديد من الأغاني، من أشهرها: - عبد الحليم حافظ :عدى النهار، أحلف بسماها وبترابها، إبنك يقول لك يا بطل، أنا كل ما أقول التوبة، أحضان الحبايب، وغيرها! - محمد رشدي: تحت الشجر يا وهيبة، عدوية، وسع للنور، عرباوى! - فايزة أحمد: يمّا يا هوايا يمّا، مال علي مال! - نجاة الصغيرة: عيون القلب، قصص الحب الجميلة! - شادية: آه يا اسمراني اللون، قالى الوداع، أغانى فيلم شيء من الخوف! - صباح: ساعات ساعات! - وردة الجزائرية: طبعًا أحباب، قبل النهاردة! - محمد قنديل: شباكين على النيل عنيكي! - ماجدة الرومي: جايي من بيروت، بهواكي يا مصر! - محمد منير: شوكولاتة، كل الحاجات بتفكرني، من حبك مش بريء، برة الشبابيك، الليلة ديا، يونس، عزيزة، قلبى مايشبهنيش، يا حمام، يا رمان! - كما كتب أغاني العديد من المسلسلات مثل "النديم"، و(ذئاب الجبل) وغيرها وكتب حوار وأغاني فيلم شيء من الخوف، وحوار فيلم الطوق والإسورة! رحل الأبنودى إلى جوار الإمام فؤاد حداد والرفيق صلاح جاهين والعم بيرم التونسى، رحل تاركًا يامنة وفاطنة ووجوه الشط الحزينة تبكى ارتباكًا يخالط تراب مصر وهواءها، شاعرًا رحل وما زال في حلقه شيء من الشعر لم يولد، فلعله ينشده في مستقرّه الأخير. (ويا مصْر وان خيّرونى ما اسكن الاَّكى ولاجْل تتبِّسمى.. يا ما بابات باكى تسقينى كاس المرار.. وبرضُه باهواكى بلدى ومالى الّا إنتى ولو ظلمتينى.. مقبولة منِّك جراح قلبى وْدموع عينى الجرح يشْفَى إذا بإيدك لمستينى.. كلّك حلاوَة.. وكلمة “مصر”.. أحلاكى!!) من قلبي: رحل الأبنودى ولم يرحل شعره... سيبقى خالدا في نفوس المصريين تاركا لنا تراث السنين! [email protected] لمزيد من مقالات ريهام مازن