ابتلينا بإعلام يخلط الأوراق وينتقي من الحق ما يدعم الباطل! أوهموا الناس أن الديمقراطية سبب ما هم فيه، وأنها لا تصلح لشعب يعاني الجهل والفقر والمرض، ويحتاج الأمن والنظام والخبز، وإذا كنت تحتاج الدليل فما أيسر ذلك، عندك سنغافوره وهتلر، فأما سنغافوره فقد استشهد بها محمد صبحي قائلاً: إنها من أغنى الدول رغم أن حاكمها قرر أن الديمقراطية لا تهم، وأما هتلر فهو الدليل لدى إعلاميي هذا الزمان على أن الانتخابات وحشة لأنها كانت السبب في وصوله للحكم، يبقى إيه لزومها؟ وبالفعل هم محقون في أن سنغافوره ديكتاتورية غنية، رغم أنها بدأت باقتصاد هزيل في 1963 بإجمالي ناتج قومي لا يتجاوز مليار دولار، ليتجاوز 300 مليار دولار في 2014. واحتكر الحكم فيها حزب واحد بقيادة "لي كوان يو" الذي وصل نجله إلى رئاسة الوزراء في 2004 (يعني كان عندهم توريث). وحرية التعبير والإعلام محدودة ومقيدة، وهناك استخدام للقمع الناعم عن طريق القانون والقضاء وفترات الحبس المفتوحة دون حكم قضائي، بالرغم من ذلك فالاقتصاد مزدهر، ومتوسط دخل الفرد فيها ثالث أعلى متوسط دخل في العالم، كما أنها تأتي في المرتبة الثالثة في العالم على مؤشر بيرسون لجودة التعليم، ومن ثم فإنهم حققوا التقدم في ظل الديكتاتورية، فلماذا الديمقراطية؟ ما لم يقولوه للناس أن سنغافورة نموذج شاذ في العلوم السياسية، وأن الشائع المتفق عليه هو ارتباط النمو الاقتصادي بالتطور في حقوق الإنسان وتداول السلطة والفصل بين السلطات، والأدلة تتجاوز الحصر من دول أمريكا اللاتينية التي كانت بائسة وهي ديكتاتوريات عسكرية وصارت مبهرة في ظل أنظمة ديمقراطية مثل تشيلي والبرازيل وكوستاريكا، ومروراً بأفريقيا التي انهكتها الانقلابات ولم تبرز فيها إلا الديمقراطيات في بتسوانا وجنوب أفريقيا، وصولاً إلى آسيا والنماذج الناجحة في اليابان وكوريا الجنوبية في مقابل بؤس وقمع كوريا الشمالية، رغم أن الكوريتين شعب وثقافة واحدة، فلماذا كان الاستدلال بالشاذ وهجر الشائع؟ ما فعلوه لم يكن إعلاماً بل غسيل للعقول باستخدام منطق انتقائي ملتوٍ. ومع ذلك فنموذج سنغافورة لا يثبت ما أرادوا إثباته، لأن النظام هناك استمد شرعيته في احتكار السلطة من أداء فعال نقل الدولة من مستعمرة بريطانية متخلفة إلى معجزة اقتصادية، وبالرغم من كونها ديكتاتورية، إلا أنها من أقل عشر دول فساداً في العالم، وهو شاذ أيضاً، لأن أكثر عشرين دولة فساداً في العالم كلها ديكتاتوريات قمعية لا حكم رشيد لديها. بالرغم من هذا الأداء الفعال فقد خسر الحزب الحاكم عدداً من المقاعد للمرة الأولى في انتخابات 2011، ويعزو المراقبون ذلك إلى أن الهوة بين الدخول في سنغافورة اتسعت، وأن ترتيب سنغافورة على مؤشر الشفافية بدأ في الهبوط، مما يجعل من انتخابات 2016 تحدياً حقيقياً للحزب الحاكم. ببساطة كان مجرد اهتزاز الأداء تهديداً لشرعية الحكم واستمراره، أما إذا كنت تتحدث عن أنظمة حكمت عقودا انهار فيها الاقتصاد والأمن والتعليم ومن قبلهم السياسة ثم تتحدث عن شرعيتها في الاستمرار في الحكم من أجل البناء، فأرجوك أن تعيد قراءة ما كتبته أعلاه، وإذا كنت تقول للناس إنه لا يصلح لهم إلا استبداد رشيد، فاذكر لهم متى صلح حالهم في ظل أي استبداد حتى تسوقه لهم. أما الحكم على فشل الديمقراطية بدليل أن الانتخابات هي التي أوصلت هتلر إلى الحكم فدعني أقل: إن ذلك باطل يراد به أباطيل، فالديمقراطية لا تعني فقط طريقة الوصول إلى الحكم، بل الأهم كيف يمارس الحكم، لأن وجود مؤسسات وفصل بين السلطات وسيادة للقانون أهم بكثير من مجرد آلية الانتخابات، ومع ذلك من قال لك إن هتلر قد أوصلته الديمقراطية إلى الحكم؟ أو أنه حكم يوماً واحداً في ديمقراطية؟ فمنذ تأسيس الحزب النازي عام 1920 وهو لا يحصل في الانتخابات البرلمانية إلا على مقاعد محدودة، إلى أن حدث الكساد العالمي فاستثمر النازيون البطالة واليأس والذل القومي الذي عانته ألمانيا بعد الحرب في تأجيج الوطنية والخوف من الشيوعية، ومع ذلك لم يحدث أن حصل النازيون على الأغلبية المطلقة في أي انتخابات حتى وصولهم للحكم. وفي عام 1932 ترشح هتلر للرئاسة أمام الرئيس هايدنبرج (84 سنة)، وبعد حملة دعاية رهيبة من النازيين بقيادة جوبلز يحصل هتلر على 30٪ من الأصوات وهايدنبرج على 49٪، لتعاد الانتخابات ويفوز هايدنبرج، ثم تأتي انتخابات البرلمان ليحصل الحزب النازي على ثلث الأصوات ويدخل في حكومة ائتلافية برئاسة بيبين، في ذلك الوقت كان النازيون قد شكلوا جيشاً بالآلاف أشاع الرعب وقتل شيوعيين ونهب متاجر اليهود، ثم دبروا حرق البرلمان واتهموا شاباً شيوعياً بذلك لتتشتعل الدعوة للثأر وتعم الفوضى ألمانيا، و يضطر الرئيس إلى تكليف هتلر برئاسة الوزراء، ويُفوَض هتلر في اجتماع للبرلمان بالأوبرا تحت سيطرة كتائب النازيين بسلطات تخالف الدستور. يموت هايدنبرج ويوصي أن ينتقل الحكم إلى عائلة هوهنزلرن الإمبراطورية. يتجاهل هتلر الوصية ويعلن نفسه فوهرر ألمانيا، أي الزعيم والمرشد والكل في الكل، فأين هي الديمقراطية التي أوصلته والحرية التي أضاعتهم؟ كان الشاعر الرقيق إبراهيم ناجي مستاءً من اختراع السيارات لأنها تتسبب في حوادث وقتل، وقال متحسراً: "هل بعد اختراع الموت شيئٌ يُرام؟" يا شاعري الأثير ليست المشكلة في الاختراع، المشكلة فيمن يستعمله، يصدق ذلك أيضاً على الإعلام، والحكم، والمنطق.. قل لي كيف يُستخدمون أقل لك من أين تأتي الكوارث، والدليل ... سنغافوره! آه يا قلبي! من العدد المطبوع من العدد المطبوع